ليبيا، حكمة أهل الدّوادة

ليبيا، حكمة أهل الدّوادة

المهدي يوسف كاجيجي.

أعتقد وأجزم أن الكثير من الأجيال الليبية الشابة، لا يعرفون شيئا عن منطقة “الدّوادة” بالجنوب الليبي. هذا الاسم، الدوّادة، جاء من اشتهار سكان المنطقة بأكل نوع من اليرقات السمكية، ما نطلق عليه عادة اسم “زريعة الحوت”، التي تعيش وتتوالد في بحيراتهم الواقعة في واحاتهم البعيدة، ومن أهمها “قبر عون”، و”المندرة”. يتم صيد هذه اليرقات السمكية، أو جمعها، بواسطة قطع من القماش تلقى في البحيرة، فتتجمع حولها اليرقات وتلتصق بها، فيتم إخراجها وطهوها. بما أن شكلها أقرب إلى الدود، فقد أطلق على آكليها اسم الدّوادة. في عام 1969م أوفدتني جريدة الحرية لكتابة عدد من التحقيقات عن الجنوب الليبي، وأدين بالفضل لهيئة الآثار التي أتاحت لي الفرصة، ووفرت لي الترتيبات، لزيارة منطقة الدّوادة، في رحلة مثيرة استخدم فيها النقل بسيارات رباعية الدفع، لأول مرة يقودها خبراء، بصحبة أدلاء من العارفين بالمنطقة. كان برفقتنا من رجال الآثار الأصدقاء الأستاذ أبوبكر الكيلاني رحمه الله والدكتور علي عبدالسلام عبدالوهاب أطال الله لنا في عمره. الرحلة كانت شاقة ومثيرة، عبر سلسلة من الجبال الرملية، وجاءت حاملة لكثير منْ المفاجآت التي تعرضنا لبعضها. عند الوصول سيبهرك، المكان المتميز بجماله وطيبة وحكمة وبساطة أهله. كان عدد السكان فيه، وقتها، لا يتجاوز المائتي نسمة، معظمهم من كبار السن والأطفال. أما الشباب، فقد سافروا للعمل، وفي الغالب من كان يغادر منهم لا يعود. الدولة الليبية لا وجود لها، كانت غائبة تماما.

ولم يكن يتردد على المكان سوى مجموعات من السائحين الفرنسيين، كانوا يتسللون عبر حدودنا الجنوبية. يبدو أن الكثير منهم قد عشق المكان، حتى تطور الأمر فصار تنظيم رحلات علاجية للأمراض الجلدية، باستخدام مياه البحيرات الكبريتية الساخنة. المحوالة مدبالة !! في الليلة الأخيرة من الرحلة، تجمعنا في جلسة على مرتفع رملي يطل على مكان، ما نطلق عليه اسم ” جوز رملة”. كان الجو ربيعيا، والسماء صافية متلألئة بالنجوم، والقمر بدرا ينعكس نوره بهاء على سطح البحيرة، ونسمة مسائية باردة تلفح الوجوه. كان الحديث من جانبنا في شكل أسئلة ساذجة، وكانت الإجابات وقتها صادمة. اكتشفنا حكمتها فيما بعد. سألنا وبدهشة، ما الذي يربطكم بهذا الخلاء القفر المعزول والبعيد، وأنتم متأكدون أن من يخرج منه لا يعود؟

مسح الشيخ على جبهته وأجاب مبتسما: إنه الوطن. نحن، كيف النخلة تنقلها من مكانها تموت، لذلك قال جدودنا: (المحوالة مذبالة ولو كان عروقها في الماء) استَلِم قبل التَسليم تزامن وجودنا في الدّوادة، التحضير لانتخابات مجلس النواب، وكانت فرصة كي نعرف ماذا يعني الموضوع بالنسبة لهم. استخدمنا جملا عن الديمقراطية، وشروط المرشح، والوعي الانتخابي إلخ… فكانوا كرماء منصتين، واستمعوا إلينا طويلا، وعلى وجوههم ارتسمت ابتسامة طيبة. عندما انتهينا من الطرح الساذج العبيط كانت الإجابة: نحن في الدّوادة لا نرى الأمور كمًا ترونها، نحن ولدنا وكبرنا وهرمنا كل ما نعرفه أن من يحكمنا مدير مقره أوباري، تداول علينا التركي والطلياني والفرنساوي وأخيرًا الليبي. لم نرهم ولم يتفضل أحد منهم بزيارتنا، لا يهمنا من يكون. نعرف أيضا من نحن، فقراء منسيون معزولون وراء جبال من الرمل لا يطرق بابنا أحد، وكل ما نعرفه عن الانتخابات، مرتبط بتوزيع الشاي والسكر على بيوتنا، تنفيذا لاتفاق تحوّل إلى عرف عام، وفي كل دورة انتخابية يتم تسليم واستلام الشاهي والسكر مقابل الأصوات، وكان الله ويبقى الله. أيها السادة، ما رأيكم في فكرة أهلنا في الدّوادة ،استلم وسلّم ،دعونا نتأمل تجربتنا التعيسة مع المؤتمر الوطني، وسيء الذكر مجلس النواب. وحالة الانحدار التي أوصلونا إليها. في زمن الفقر كانت الانتخابات فرصة للتمتع بقصاعي الرز واللحم، وتهدريزة سمحة مع طاسة شاهي مربربة، ويقوم المرشح العضو المحترم بصب الماء على يدي ضيوفه، الآن إنهم لا يعرفوننا إلا وقت حاجتهم، توقيعاتنا ليحصلوا على الترشيح، وأصواتنا للجلوس على الكراسي، وبعد ذلك ينفض العرس.خذ حقك قبل أن تعطي توقيعك وصوتك. *الصورة: طفولة هرمة،من منشورات جريدة الحرية ربيع 1969 ضمن تحقيقات عن الجنوب المنسي.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :