قصة قصيرة عبد العزيز الزني …..
الإهداء إلى أطفال يُنتظر أن يولدوا
مذ أطلت زهرة عباد الشمس هذه باستدارة وجهها المزهر ، بصفرة آسرة على الدنيا ، و صارت إحدى زهرات هذا الحقل الشاسع ، المترامي الأطراف و البعيد مشرقه عن مغربه ، حتى أدركتْ وهي ما تزال تعيش طراوة صدر أيامها الأول ؛ و كما فهمت من أبائها الأوائل أن مصيرها ، مرتهن بقرص الشمس المتوهج ، ذاك المعلق بكبد السماء ، عليها أن تدور معه سرمديا ، أينما توجه تتبعه ، و أنها بعد ذلك ، لاشيء أخر تستطيعه ، إلى أن تذبل رويدا رويدا و تيبس و تموت ، و تقدم بعد ذلك علفا للبهائم ، و إياها ـ و كان التحذير مشدداً ـ أن تغفل عن هذه الحقيقة لحظة واحدة ، ففي هذا هلاك لها و لجميع بني جنسها من زهور عُباد الشمس ، و أيُ هلاك مُفجع ، لو تدرك هي صغيرة السن ابعاده هالها هذا المصير المؤلم ، مثل لها خيبة أمل كبرى ، لاذت بالصمت تتعزى به ، هي لا تبغي أكثر من أن تمرح ، تـقهـقـه مـلء شـدقيها ، تجرى ترقص ، تزغرد فرحاً و طربا ، ليس أكثر ، كان هذا حديثها لداخلها و عينها على قرص الشمس المتوهج ، حذرة عاقبة الغفلة ، تساءلت لماذا علىّ أن أقبل ما لا يروق لي ، و أنا في مكنتي غيره و أتبع في بلاهة قرص الشمس ، كثور ساقية عُصبت عيناه ، لا يقف إلا ليبدأ ، و بعد هذا ، لا يدرك هو من أمره شيئا . هي تُريد أن تذهب باستدارة وجهها ، إلى أي اتجاه تحب ، تريد أن تحلم حُلمها ، أن لا يُراد لها ، أن تأخذ هي بيدها يدها .
تطلعت إلى زهور الحقل ، من حولها رأتها في انحناءتها الدائمة الأبدية و حتى الموت أمام قرص الشمس المتوهج ، و هي لا تدري أنه لا يدري من أمرها شيئاً . و تعلو درجة توقها للإنعتاق ، و في النهاية ، تتخذ هي صُغرى زهور الحقل قاطبة قرارها : لن أنحني و منذ الآن أمام قرص الشمس ، لن تغويني حمرة توهجه ، لن افتن به ، أبداً لن افتن به بعد الآن ، طار الخبر ، بسرعة الضوء ، ما هي سوى ساعة من نهار ، و عمّ جميع الحقول ، زهرة واحدة لم تبق إلا وسمعت به ، اضطربت ، أصابها هلع أوشك أن يفقدها القدرة على التنفس ، كادت أن تسقط من فوق أغصانها ، ما عادت تدري من أمرها شيئا ، كيف لها أن تصدق ، تساءلت و لأول مرة ، و العيون مشدودة إلى قرص الشمس المتوهج في كبد السماء ، ماذا هناك ، ما الذي يجري ؟ ماذا يراد بها ؟ إنها النهاية ، لا شك أن تلك الزهرة ، ليست منا ، مدسوسة بيننا ، بين برهة و أخرى صارت ، في عيون جموع أزهار عباد الشمس ما رقة ، لقيطة ، لا أصل لها ، و إلا ما كانت لتسمح هي الصغيرة لمثل هذا الخبل ، حتى أن يمر بخيالها ، في الحال ، و بعد أخذٍ و عطاء و جدال كبير ، و طرح العديد من الآراء ، كان الجميع عندها ، يحيطون بها ، و العيون لا تفارق قرص الشمس مشدودة إليه ، لا تحيد عنه ، بدأت الجموع تطالبها العدول عن ما انتوت ، و أن تدرك خطورته ، قبل حلول الكارثة ، توسلن إليها ألا تفعل ، أن تثوب لرشدها ، و إلا ضاع مصير أمة زهور عباد الشمس عن بكرة أبيها ، استمر الحالُ لوقتٍ غير قليل ، لكن لا جدوى ، ظلت تلك الزهرة ، و تبسمها الدائم ، معتصمةً بقـلاع قناعاتها ، كان الوقت يمضي ، و السجال لا يتوقف ، إلى أن قالت لهن و في هدوء المطمئن و هي تشير إلى عصفور ، كان يعبر الأجواء حينئذٍ : أرأيتن ذاك العصفور ، تساءلت جموع زهور عباد الشمس ، أي عصفور تقصد ؟ فهن لا يعرفن و مذ خلقن شيئاً سوى قرص الشمس .. كررت الصغرى ما قالت و طلبت منهن أن يتطلعن إلى هناك .. حيث العصفور الصغير يسبح فرحا بحريته التي منَّ خالقه بها عليه ، و مضت الصغرى تكرر مطلبها و تلحْ ، إلى أن حدث و فجأة ، و تحت تأثير جاذبية نبرات صوتها وسحر كلماتها ، أن التفتت جموع زهور عباد قرص الشمس قاطبة ، و في ذات اللحظة ، ، إلى حيث أشارت فأبصرن ما أذهلهن و سلب ألبابهن و ما أجمل و أعظم ما أبصرن ، مخلوقا صغيرا ، يجوب الأجواء و يسْبحُ في فضاء الدنيا يصدر عنه أنغاما ساحرة ، عرفن أنه عصفورٌ ، انتبهت الجموع فجأة و فطنت لما يجرى ، ها هن ينظرن بعيدا عن قرص الشمس ، و تبصر إحداهن الأخرى ، و لا شيء يحدث مما توقعن ، سخرن من أنفسهن ، و أكبرن ما كان من صغرى زهور الحقل .. و أدركن أن هناك أشياء أخرى مما أبدعها الخالق ، تتوهج غير قرص الشمس .