فريدة الحجاجي
تقول رواية قديمة إن راعياً كان يعيش في الحبشة فوجئ ذات مساء بأن أغنامه قد اعترتها حالة غير عادية من النشاط والحيوية بعد أن أكلت من شجيرة معينة ، فقرر أن يجرّبها بنفسه فانتابته هو الآخر حالة واضحة من زيادة الانتباه والنشاط ، من هنا جاء اكتشاف شجرة البُن التي يُصنع منها مشروب القهوة الذي أصبح له مئات الملايين من العشاق حول العالم .. وأنا واحدة منهم ! وقد اشتهر اليمن بزراعة نبات البن ، ومنه انتقلت حبوب القهوة إلى أرض الحجاز ومصر لتصل إلى أرمينيا وبلاد فارس ومن هناك إلى تركيا ثم إلى أوروبا وبقية أنحاء العالم ، حيث يحتل فنجان القهوة في وقتنا الحاضر المركز الثاني عالمياً من ناحية الاستهلاك والتصدير بعد النفط ومنتجاته
وتفننت الشعوب المختلفة في تحضير هذا المشروب الشهير ليكتسب مذاقاً خاصاً ومميزاً ، فمن القهوة التركية المعروفة إلى العربية المخلوطة بالبهارات إلى قهوة النسكافيه الفورية التحضير إلى الأسبريسو الإيطالي المركّز إلى القهوة المثلجة وغير ذلك كثير ، ومن الطريف أن قهوة (الموكا) المعروفة المكونة من القهوة الثقيلة والشوكلاتة الحارة والحليب الفوّار ، جاءت تسميتها من ميناء المخاء Mocha في اليمن وهو أشهر ميناء كان يصدر منه البن اليمني إلى أنحاء العالم ، وقد استبدل حرف الخاء بـ الكاف لصعوبة نطقه عند العجم . ويبدو أن لعالم القهوة سحر خاص جذب بعض المؤلفين فاستوحوا منه كلمات أعمالهم ، فجاءت أغنية أسمهان : يا مين ايقول لي أهوى .. اسقيه بإيدي قهوة وهي من كلمات الشاعر الكبير مأمون الشناوي وغنى المطرب التونسي محمد الجموسي : قهواجي هات لي قهيوة .. سخونة وحليوة وفي ثقافتنا العربية قد يتحول فنجان القهوة إلى وسيلة للترحيب بالضيوف ، فنجد المطربة سميرة توفيق تشدو بأغنيتها المشهورة : بالله تصبّوا هالقهوة وزيدوها هيل ! كما حاول الشاعر نزار قباني تأمل المستقبل في قصيدته قارئة الفنجان عندما قال : جلست والخوف بعينيها .. تتأمل فنجاني المقلوب وكانت هذه آخر أغنية للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ قبل وفاته
! والقهوة قد تكون الشراب الوحيد الذي أُطلق اسمه على أماكن عامة وهي المقاهي (أو القهاوي) ، التي نجد أنها في بعض المراحل التاريخية قد تجاوزت وظيفتها في تقديم القهوة والمشروبات ودخلت عالم الأدب والثقافة بفعل روّاد حوّلوها إلى مكان أقرب إلى المنتدى ومكان للاجتماع وللتواصل والنقاش وتبادل الآراء ، كما استخدمها بعض المبدعين مكاناً للكتابة والتأليف.
ومن أشهر هذه المقاهي (مقهى ريش) القاهري الذي تأسس عام 1908 ، والذي كان ممنوعاً فيه تدخين الشيشة أو لعب الكوتشينة أو طاولة الزهر للحفاظ على الطبيعة الثقافية للمقهى وروّاده ، الذين عاش بعضهم فيه قصص حب مكللة بالزواج كالشاعر أحمد فؤاد نجم والكاتبة صافيناز كاظم ، كما عُقد فيه اجتماع في الأربعينات من القرن الماضي ضم أبرز فناني مصر على رأسهم أم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب ، أسفر عن إنشاء أول نقابة للموسيقيين في مصر والعالم العربي
. وهناك أيضاً (مقهى الفيشاوي) الشهير الذي افتتح عام 1797 والذي اتخذ شهرته وبريقه بفضل الأديب المعروف نجيب محفوظ ، حيث كان الفيشاوي مقهاه المفضل الذي ولدت فيه الكثير من المسودات الأولى لرواياته ، ومن أشهر رواده أيضاً الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وغيرهم كثيرون . في الختام وكما يُقال فإن تناول فنجان من القهوة يومياً يعزز الفكر والإبداع ، أتمنى لكم مع كل رشفة قهوة جميل الأفكار ووافر الاستمتاع ! رمضان كريم مبارك .. كل العام وجميعنا بألف خير .