عبدالرحمن امنيصير
أتعلمون أن والدي يكره سؤاله: ما بال ذراعك؟ فهي تعيده لذكرى لا يود استرجاعها، حيث الفرح يعم البيت، لا صوت يعلو فوق صوت الموسيقا والزّغاريد، يكتظّ بالنّساء الأفق الرّحب، المنزل مزدان بسرب من الأضواء الملوّنة، وتتراقص الفتيات والنسوة، ويقيم الرّجال حلقات الدّبكة ابتهاجًا، الألعاب النارية تتفتح ورودًا مضيئة في حلكة السماء، دق ناقوس الخطر لإقبال الليل وانتشار الظلمة وطلوع الكواكب أقبلت عساكر الليل، خفقت رايات الظلام، خلع الليل علينا فروته، وألبسنا الظلام بردته، أذكى الفلك مصابيحه، وطفت النجوم في بحر الدجى.
ازدحم البيت بالنّساء، فلم نجد موضع مضجع يأوي أجسادنا المنهارة، كي نهيم في نوم عميق فصيح جبال التّعب التي على كاهلنا، توقّع والدي هذا الموقف واستعدّ له جيّدًا، استعار من صديقه مزرعة ليست ببعيدة عنّا، انطلقنا بالسيّارة متجهين نحو غيهب مجهول في ليلة لا تُنسى، حافلة بالمفاجآت، ليلة من الليالي الباردة، لم يخلد فيها القمر للنّوم، احتشدت الغيوم الداكنة ملبدة في مسرح السماء، يكاد الظلام يحجب الطريق عن لحظ العيون، لولا ضوء شحيح ينسل من النجوم ترسله للأرض بعد أن وجد منفذًا بين الغمام، يندس أبي خلف المقود ويتشبث فيه كغريق يتشبث بالحياة، يحملق في الظلام وينعطف بالسيارة دون أدنى فكرة إلى أين تأخذنا الظلمات! بغتة وعلى حين غرة، غرقت السّيارة في الرّمال، بلا أي تفكير وكردّ فعل داس والدي على البنزين ليخلف ستارًا من الأتربة ويزيد الطّين بلة، انتفض غضبًا وتطاير الشرر من حدقتيه الواسعتين، وأخذ يلوي بشاربه في محاولة لمواراة قلقه واسهابه في إيجاد حل للخروج من المأزق، أمرني بالتقاط أي عصا أو خشبة لوضعها تحت العجلات والضغط للخروج، لكنها باءت بالفشل كسابقتها، شاع الصمت وساد السكون دلفنا السيارة وأنزلت الكرسي في تهيء للنّوم، فجاءة صوت لم تألفه أذناي من قبل، جلجلة أصوات مرعبة، صوت جعل أطرافي ترتعد وأسناني تصطك ببعضها، تمنيته حلمًا سرعان ما سأستفيق منه، لكنه لم يكن سوى واقع مريرٍ وحقيقةً ماثلة أمام عيني، رغم انعدام الرؤية تقريبًا، ركبتاي تتخبط ببعضهما كأنهما تشعران بأنها آخر لحظات حياتي، عويل الذئاب يأزف رويدًا رويدًا، أحجم أبي المصابيح الأمامية للسيارة، هاجمنا قطيع الذئاب ولم تغادر لنا ملجأ ولا مهربًا، أبهمت النوافذ وأوصدت الأبواب، انقضّ أحدهم على الباب الذي من جهتي مسببًا صدعًا خلخل قفله، وكسر نافذته، تدفّق الأدرينالين بغزارة في عروقي مما جعلني في تأهب لفدية أبي، امتشق مسدسه من أسفل الكرسي وتردد صدى صوته في أذني: إياك ومغادرة السيارة مهما حصل.
أطبق الباب بقوة وباشر في إطلاق الرصاص وطرحهم أرضًا ذئبًا تلو الآخر، هرب جلهم خوفًا مما سيحل بهم، لكن ذئبًا أبى الهروب، انتصب أمام والدي في وقفة شجاعة لربما الجوع هو السبب فأحيانًا تأمرنا العقول بفعل الجنون لنبقى في هذه الحياة، نفدت الذخيرة دون سابق إنذار، استغل الذئب الفرصة وانقض على والدي انقضاض النّمر الكاسر غارزًا أنيابه في معصمه مقتلعًا إياه، لم أستطع الوقوف مكتوف اليدين، تناولت عصًا غليظة بكل لهفة وبسرعة البرق أحكمتُ قبضتيّ ورفعتها على امتداد طولي لتزداد قوتها، وضربتُ بها الذئب اللعين فانحدرت إلى نصفين، فإذ به يهاجمني في غضبه، انتشل أبي فأسًا من صندوق السّيارة في سرعة خاطفة تكاد تكون بسرعة الضوء، ضرب بها الذئب في عنقه مخترقًا طحاله، صاح الذئب صيحته الأخيرة، وصبغت دماءه الرّمال بصبغتها الحمراء، انهار والدي كجثة هامدة ومن هول الموقف أغمي علي، لحسن حظنا مرّ مزارع في طريق عودته ليجدنا رقودًا على تلك الرّمال، قطرات النّدى تنساب برواق على أجسادنا، والبرد ينهش أجسامنا كجثة وقعت في يد سرب من النمل، انتشلنا ووضعنا في سيارته واتجه بنا للمشفى، استطاعوا إنقاذ والدي من موت محتم ربما لو تأخرنا قليلًا لانحال العرس إلى عزاء، اضمحل الظلام وأشرقت الشمس تنثر خيطوها الذهبية وأشعتها الحانية على جلودنا، أضحت الزغاريد نواحًا من الفاجعة، عدت مع أخي لاستعادة سيارتنا، وفي النهاية لا يبقى في الذاكرة إلا ما أردنا نسيانه.