تأمُّلات في مهابة الصحراء..!
سالم الهنداوي
.. لم أعرف الصحراء كثيراً وإن كانت تستهويني أساطيرها وغواياتها العريقة، مررتُ بها مرور العاشق في رحلات الكشافة وأنا صغير فشممتُ هواءها النقي، في نهارها حيث الفضاء الوسيع على مدى البصر، وفي ليلها البديع حيث النجوم تسكن سقف الكون في مهابة.
كُل شئ في الصحراء كان يولد من زمن سحيق، أو أنها فعلاً مولد الزمن السحيق بغموضه البهي، بكثبان رمالها المتعرّجة طوع الريح، وبنخيلها الواثق وواحاتها الأسطورية الشغوفة بأحلام الكائن البشري، وبأثار حضارات أقوامها القدماء الذين مرّوا بها في التاريخ من عدم وأقاموا على رمالها بعيونهم الحادّة يغمرونها بطقوسهم الخالدة في حلقات النّار.
كُل شئٍ في مداها مستقيم مثل طريق القوافل بصمتها الحالم، وشامخاً متألقاً مثل نخلاتها الباسقات، وساحراً بهيّاً مثل تلك المسافات بين تلال الرمل وتلال الحجر، حيث يحوم الطير الكبير ويختفي، وحيث تتناثر الغزلان وراء الشِعاب، وحيث كهوف الجان الذي ملك الصحراء بوحوشها ومخلوقاتها السديمية.
لا حدود للمدى في الصحراء، فكُل مداها يطول، وكُل الكائنات فيها جاءت من سحر قديم مدفون، ومن مهابتها أخذت من غموض الصمت دليلها في أولى الأزمان، منذ عصفت ريح الانفجار العظيم، ومنذ تكوّنت الحياة فيها بغاباتٍ كثيفة وحيواناتٍ بالغة، ثم برمالٍ وأحجار وصبّار، وهي دليل الأرض الأولى ومنبت الأساطير العريقة التي عرفتها الخليقة وحكمها الجان، وهي منبت الرسالات السماوية، وموطن الأنبياء.. الصحراء روح الكون منذ الأزل، ومصدر إلهامه في الوجود.
لا أعرف الكثير عن الصحراء، وهي التي أعيش على ضفافها منذ أكثر من ستّين عاماً، فهي في ظهري مباشرة وأنا أنظر إلى البحر، تحميني بمداها العظيم وتغمرني بهواء شمسها وبوهج رياحها الخماسينية، فالساحل الليبي منذ حضارة مدنه الخمس القديمة، وحتى مدنه الحديثة الناشئة على الفقر، كان الامتداد الجغرافي للصحراء الكُبرى ومحطّ القوافل، وهو نهايتها على شاطئ المتوسِّط حيث المنارات والموانئ التي مثلما تستقبل السُّفن تودِّع قوارب الهجرة لعابري الصحراء إلى الشاطئ الآخر من المتوسِّط.. فالصحراء الوسيعة هي فضاء العبور الأفريقي باتجاه الشمال وما بعده.. الصحراء بقسوتها تلفظ البشر إلى الماء تحقيقاً لوهم السراب الذي صاحبهم في رحلة الموت بين الكُثبان، ليجدوه حقيقة مالحة حين يلتهمهم البحر إلى جوفه.
قديماً كان إنسان الصحراء لصيقاً بالرمل والوحوش، ويستمدّ طاقته الحياتية من جذور النخيل الغائر، ومن عُمق البحيرات الخضراء بضفاف أعشابها اللزجة، تلك البحيرات الداكنة التي لم يلجها أحد سوى الجان، هي الغور السحيق لكائنات جوفية حيّة لم ترَ النّور أبداً، لكنها تأخذ من روح عمود السماء ما يجعلها تبعث الحياة باستمرار في الكائنات المحيطة، المجبولة إلى روحها المُقدّسة، من نبات وإنسان وحيوان، وهو ما يدعونا باستمرار للتأمُّل في حياة الغزال الشارد في الصحراء، كيف يرانا وكيف نراه، وفي الإبل ذات الأعناق الشاهقة إلى السماء، العابرة للجفاف، كيف تمضي وإلى أين تمضي في القوافل، وفي حياة النخل الباسق الذي ينهض من رمل يحمل عراجين أجود ثمار الكون، وكذلك الأمر مع الإنسان الخصب ذي المسحة السمراء الكائن في الفراغ البعيد كيفما كان، ولم يكن وحده العارف بسرِّ ذلك الغموض المهيب السّاكن في الصحراء.
في الصحراء لا ترى السرّ ولا تعرف به لأنه مدفون، وهي بهذا المعنى عنواناً للسرّ الحافظ ما بداخله من أسرار. إنها الفضاء المفتوح بلا حدود وعمودها السماء، وهي في الأسطورة مملكة الجان التي أطلقت الطير والحيوان، وألهمت الإنسان طريق الخلاص.. كُلُّ سهمٍ في الصحراء ينطلق ليصيب، فلا جدار في مرمى البصر، ولا ستار يحجب خيال الفريسة.. إنها أرض القدر بأسرارها الدفينة، وهي خارج سيطرة الإنسان، فلا أحد بمقدوره أن يتحكّم في الصحراء سوى الطبيعة وظِلّ السماء.