- عائشة إبراهيم
في المطارات يمكنك أن تقرأ أحوال الناس من حقائبهم، الحقائب لغة أخرى تترجم مشاعر المسافرين وانعكاس أرواحهم، الحقائب تخبرك عن الآمال والأحلام والتوق والشغف والطموحات، كما تخبرك عن الحزن والفقد والكآبة والأوجاع، في المطارات للعيون لغة، وللأجساد لغة وللحقائب أيضاً لغة.
هكذا في زحمة بوابة المطار وحيث يتدافع المسافرون باتجاه السير المتحرك، يحشرون في فتحة التفتيش الالكتروني حقائب سوداء ورمادية وزرقاء غامقة، ومعاطف ثقيلة وأكياس نايلو مليئة بالعفش الرخيص، من بين كل تلك الأمتعة كانت ثلاث حقائب بيضاء جديدة متفاوتة الحجم تطوّق كل واحدة شريطة حمراء معقودة نهايتها على شكل فيونكة كبيرة، وما أن أخذت مكانها على السير وعبرت فوهة الجهاز المظلمة حتى التقطتها على الجانب الآخر فتاة شابة بكامل زينتها، يرافقها رجل خمسيني نحيل وامرأة طاعنة خفيفة الحركة قصيرة القوام، سار ثلاثتهم يدفعون الحقائب البيضاء وهي تنساب برشاقة على البلاط، وتحكي حكايتها بلغة أخرى حول حياة أخرى وربما نهاية أخرى.
لم تكن رحلة العاشرة صباحاً المتجهة إلى القاهرة قد افتتحت بعد، فتقاسمنا نحن المسافرون المقاعد القليلة قريباً من الكاونتر، وأضفت الفتاة بمكياجها الفاقع والحقائب البراقة حالة من البهجة المقرونة بالفضول، بدا ذلك من الأنظار المصوبة إليها، وتداركت العجوز القصيرة الأمر فهمست لنا نحن النساء من دون أن نسألها أن حفيدتها هذه عروسٌ في طريقها إلى عريسها الذي سيستقبلها في مطار القاهرة ومنها إلى دبي حيث يعمل في شركة استثمار كبيرة.. وكانت الفتاة تتابع حديث جدتها بزهو صامت وتمرر أصابعها المخضبة بالحناء على وشاحها الزهري الذي انزاح قليلاً عن مقدمة شعرها المصبوغ حديثاً بالأشقر.. كانت جميلة كطفلة، لكن الرموش الاصطناعية الكثيفة وحقنة الفيلر بالشفتين الممدودتين في بلاهة جعلت من جمالها أقرب إلى لوحة مرسومة بالذكاء الاصطناعي، كنتُ على الكرسي الملاصق للجدة، فيما الفتاة ووالدها على الجانب المقابل تتوسطنا الحقائب البيضاء الثلاث مثل سرب من الأوز يتمخطر حول بحيرة مَلكيةّ، وبشيء من الشفقة نظرتُ إلى الحقائب، أنا التي أدركُ من تجارب سابقة ومريرة المصير المحزن الذي ينتظرها على يد عمال المناولة وهم يقذفونها بقسوة وشماتة، لطالما تحطمت حقائبي الزاهية المصنوعة من اللدائن البراق، وجرجرتُها مثل كائنات مشروخة عرجاء، ثم استبدلتها بالحقائب التقليدية من القماش الغامق السميك، لهذا دعوت الله أن تحدث معجزة من نوع ما، تحمي فرحة الفتاة من عبث الأيدي الشريرة، وكانت الجدة وهي تجلس بجواري تتململ في مكانها، كأنها تريد التخلص من ثقل حديث ما قائلة:
– البنت صغيرة يا دوب خذت الشهادة الثانوية، العريس يبيها صغيرة يربيها على كيفه..
فجأة شعرت أن أسئلتي المتهورة ستقفز على لساني لاعنة مستنكرة، لكن العجوز تداركت مبررة الأمر:
– خمس بنيات أمهن متوفية، ولدي تزوج والبنيات قاعدات معاي، ولدي ساكن فوق مني ويصرف عليهن.
انتقلت عيناي إلى الأب الجالس صامتاً قبالتي، كان نحيلاً بملامح منكسرة وذقن غير حليق، يرتدي جاكيت زيتياً قديماً وسروال جينز يضفي إلى مظهره مسحة شبابية إلى حد ما، كانت نظراته تبحث عن شيء ما، ثم نهض أخيراً باتجاه المقهى وأحضر للفتاة علبة شيبسي وقطعة شيكولاتة سنيكرس، قرمشت العروس رقائق الشبسي بانفعال طفلة ثم التهمت قطعة الشيكولاتة لاعقة ما تبقى منها على الشفتين المنفوختين بالفيلر، وكانت الجدة مازالت تتابع حديثها كأنها في استجواب، أخبرتنا أن أخت العريس هي من اختارت حفيدتها ودفعت إليهم عشرين ألف دينار، وحجزت لها تذكرة السفر، هكذا تمت صفقة الشراء بسرعة كبيرة على ما يبدو، لتبدأ عملية شحن البضاعة إلى الزبون المجهول، تأملتُ الحقائب البيضاء الجميلة، الفصوص الفضية البارزة على سطحها المصقول، الشرائط الحمراء المعقودة على شكل فيونكة، العجلات الصغيرة في الأسفل مثل أقدام راقصة الباليه، هنا في جوف البياض تصطف قمصان نوم براقة، وعلبة مكياج وعطر وأحمر شفاه ومشابك شعر، وتذكارات من صديقات صغيرات.. هنا ترقد أحلام عظيمة، وسعادة منتظرة، وشغف بحياة ممتلئة بالصخب والحب والبهجة، لكن يوما ما ستصبح العروس امرأة ناضجة وتستبدل كل هذا الرونق الناعم بحقائب القماش المتين، الحقائب الغامقة التي تحتمل الأذى دون أن تشكو أو تنكسر، سوف يحاول تحطيمها رجال كثيرون، يرمونها بقسوة لكن الغلاف السميك سيقاوم الندوب ويمتص الصدمات العنيفة ويواصل رحلته في الحياة..
– ربنا يقوي سعدها.
تمتمتُ بصوت خفيض، حين انطلق النداء عبر الميكروفون معلناً عن افتتاح رحلة القاهرة، شاهدت موظفة الكاونتر تستلم الحقائب الثلاث وتدفع بها بعيداً عبر السير المتحرك، وكانت الفتاة تختفي عبر بوابة المغادرة فيما الأب يمسح دمعة نافرة ويلوح بيده مودعاً.