تَنّوَه.
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
سعاد سالم.
soadsalem.aut@gmail.com
عانيت خلال مراحل الدراسة مما يشبه الدورة الاقتصادية قمةً وقاعًا، وفي كلا الحالين لم أكن أقصد ذلك، فعليا، أعني إنني في الغالب لم أعرف سبب تفوقي لبعض الصفوف وفشلي في سنوات أخرى، بل وأعدت بعض صفوف الدراسة، ولكن ما حصل معي في الثاني الإعدادي كان غريبا بعض الشيء، كنت فشلت في الأول الإعدادي ولكن في الثاني الإعدادي كنت الأولى على صفي في الفترة الأولى ، في الفترة الثانية جبت الثانية على الصف ولكن بكعكة في العربي ، وهذا ما لايمكن أن يصدقه أحد فما بالك أنا، واستغرقني الأمر سنوات حتى عرفت أنني وقعت ضحية تمييز من معلمة حلت محل معلمة اللغة العربية وهكذا كان.
ثم اكتشفت أننا ننمو دونما معرفة بأنفسنا، ويقتصر كل ميراث الطفولة على فهم الوالدين للتربية، وعلى فهم وتصنيفات وأحكام المجتمع بصفة عامة، وفي حال بعض الأشياء التي يصير موضوعها شائعا وخصوصا السلوك ،ننمو بالكثير من العطب والضعف في الشخصية ،ذلك لأننا ببساطة من عائلة ما يعرف الآن بفرط الحركة ، وبكل ما في هذا التشخيص من كدمات في الطفولة لا نشفى منها أبدا.
صفّة الحيط كانت لأمثالي في فترات القاع التي لا سلطة لي عليها، وغالبا أستغرب من السقوط لأنني عندما أتفوق لم أكن بذلت جهدا استثنائيا على الإطلاق، بل يبدو أنني أتأثر بنوع الدروس ومدى ارتياحي في العام الدراسي ،وانجذابي لأساليب معلماتي، وأشياء أخرى لها علاقة أيضا بالفصول وتبدلها ربما، ربما بالكآبة قدر عيلة فرط النشاط، وذلك للحساسية الشديدة، ومن دقة الملاحظة، والعناد والإفراط في الخيال هروبا من الواقع.
يتعاركوا
هل كان منكن/منكم من يتعاركوا عليه المُدرّسات؟
للإشارة للنجباء أو الشُطّار في المدرسة يقولوا : يتعاركوا عليها/عليه المدرّسات، كنت في المراحل الأولى من الابتدائي حينما جربت كيف أكون في ذلك العمر فوزا عظيما عند البالغين، كما يفعل الفنانون في ذا فويس، يتعاركوا عالأصوات الجميلة،كل يرغب أن يكون في فريقه، وكنت في الصفّ السادس حينما شاهدت بنفسي كيف تتعارك معلمتين على تلميذة في الدور الثاني المخصص لبنات الصف السادس في مدرسة جامع عمورة، وكانت ثريا على ما أذكر اسمها، تلبس نظارات،وتجاهد بينهما على أن تقف وتلملم حقيبتها وبضعة أقلام وقعت منها، أذكرها بقرمبيولها وشعرها المجعد ملموما في ذيل حصان منفوش ،تسريحتها طوال العام ، أعتقد أنها طبيبة الآن ،أعني سمعت أنها درست طبا ، ويجب أن تكون الآن بروفسورة( بالتاء المربوطة) ، أما وقتها لم أفكر في شيء تقريبا، أو أنني نسيت شعوري وقتها، لأن المشهد الآن كما لو كان مسلسل البطلة والتي هي أنا مدايرة فلاش باك بملامح محايدة، قصدت أن أقول ربما حسدتها، أو شعرت بالضعة، فأغلب المعلمات يحرصن على أن يشعرننا بالضآلة أمام الشاطرات.
التعزير.
لا أعرف متى اتخذ التصفيق شكله الحالي، ولكن كان التصفيق في الابتدائي وأعني في السبعينات له وظيفة أخرى وهي التعْزير، وهي لفظة عربية فصحى تعني التشهير، ففي حال لم نحفظ سورة، أو لم نحل واجب الحساب أو إإن عزّر (معناها الليبي)حد منّا الثاني بألفاظ يسمعها الآباء الآن ويضحكون، جميعنا سنجمع في حشد وتدور بنا المعلمة على الفصول طالبة من التلميذات والتلاميذ التصفيق على هذا الحشد من المجرمين الصغار في حق أنفسهن/هم ، وهكذا سيكون مشهدا مرعبا للمصفق والمصفقين عليه، أنا شخصيا جربت مرة واحدة أن يصفقوا عليّا مع حشد من التائهين عن الصواب.
سمعة المقعد الأول
نظرا لطول قامتي لا أتذكر أنني حزت على عرش الصف، المقعد الأول في الصفة الوسطية، مقاعدي تتقدم وتتأخر حسب موقعي من الشطارة ولكن الأول كان دائما لشخصيات أشعر بالحيرة أمامها ، وكأن المقعد هو الذي يجعل صاحبته أميرة، وأحيانا كنت أقلد بعضهن لأن غالبيتهن هن العريفات في الفصل، وهن من يحظين باهتمام الأبلة ، حينما تشرح الدرس أو تسأل ستقف دائما في جانب التلميذة في المقعد الأول، وستمنحها مفاتيح خزانة الكراسات وهو مشوار تميز يبدأ من أول يوم في المدرسة، حينما تساعدها في توزيع الكتب، آه من فتاة المقعد الأول وهي تمسح الصبّورة(بالصاد) ، وهي تحضر الطباشر والمسّاحة في حالة مش موجودات، أحيانا تروح بيهم إمعانا في رفعة المنزلة ،وتكتب التاريخ على يسار الصبّورة (بالصاد) وفتاة المقعد الأول غالبا قصيرة، شعرها ناعم ولئيمة.
الحيط
من معجزات الناس أنه بإمكانهم تحويل الأسماء إلى صفات، وهكذا تحول الحيط من جزء هام في مبنى ،إلى صفة لتلميذات وتلاميذ كيف قالوا بسملّه في الدراسة، والحيط هي المرادف لصفة الغباء بل وأشد وطأة، لذا كنا بقدر الإمكان نتجنب الجلوس في صفة الحيط لأنه سيعدينا وسيكون مصيرنا مجهولا بوجودنا في هذه الصفة الملعونة والتي تجمع فيها المعلمات ضعيفات المستوى في هذه الصفّة التي تشبه رؤوسهن، رغم مزايا الحيط، إنه حاجز طبيعي في الامتحانات الحيط من جهة والشنطة من الجهة الثانية ، في حال الملل يمكن الاتكاء عليه في حصة مملة، يمكنني التفرج على أي شيء تطل عليه صفّة الرواشن ،أفضل ممن يجلسن بجانبها، أو في الصفّة الوسطية، دون أن تلحظني معلمة متعكرة المزاج، ويمكن في حصة كافأتنا فيها معلمة ما بالغياب، من أن أغرس رأسي في ذراعي المتربعين ووجهي للحيط لأكمل قراءة قصة، أو أحلم أو أخلق مساحة صغيرة غير مخترقة، أعني مايشاع عن الحيط حتى لو أن معلّمة واحدة في سنة ما دمرت سمعته فإن ذلك ورغم مزاياه التي أعرفها وجربتُ أغلبها قضت عليه أبلة متنمرة.
حان وقت السؤال
لم أنسَ الرُقبة النايلو لمشبّكة على جيهة والنسترو الأبيض مفتوح وثريا تجاهد بين معلمتين كما لو كانت الطفل في قصة الأميّن اللتين ادعت كل منهما أن الصبي ابنها، وبرغم الرواية اللامنطقية التي كشفت أيهما الأم الحقيقية، غير أنها ترمز في النهاية إلى تفضيل الأم لمصلحة طفلها وأهمية حمايته، فيما مشهد ثريا بين المعلمتين يدعو للسؤال: ماذا يهم أي فصل ستكون فيه ثُريّا ، ماذا يمنح المعلمّات من تميز الاستيلاء على تلميذة شاطرة، فيما ينبذ من يحتاج العناية
فطوال مراحل الدراسة لم ألحظ أي اهتمام بالتلاميذ الضعاف في التحصيل، بل يتم تجاهلهم كما لو كانوا مرضى ، ويعاملون معاملة المرض في جسد الفصل،وفي فترات القاع التي أمر بها لم تهتم أي منهن بي، ولا بأي ممن مروا ومررن بنفس الصعوبات، إذ وقد شاع التشخيص مؤخرا، فهمت وأنا في الخمسين ماهو اضطراب فرط النشاط (ADHD) ،وماذا كان يحدث معي، وأنا أسير في الحياة بكل مخاطر الرسوب والتفوق، وفهمت أسباب اللمعان والخبّو، ولماذا الحماسة والانطفاء، الارتفاع ثم الوقوع، ولأن للمعلمة/المعلم دور في مصير أجيال كاملة إذ (كاد المعلمُ أن يكونَ رسولاً) ليس شعرا ، فروح التعليم ،وجوهره، أن يمد المعلم/ة اليد للأضعف تحصيلا حتى يتماثل للتعافي ،ويقف على الطريق، كما تفعل الأمهات مع المريض حتى يشفى ، ومع الغائب حتى يعود، ومع الصغير حتى يكبر. إن لم نهتم و عاجلا بروح التعليم وأصالته، سيكون مصير البلاد كلها على بعضها، صفّة الحيط.