ماذا لو عادت كل الأساطير العربية إلى الحياة؟ لكن ليس إلى أماكنها المعتادة في الصحارى والواحات والحواضر الشرقية وشواهق الجبال، بل إلى مكان يقع “بين الوجود والعدم”، حيث تذهب الخرافات التي أنكر العلم وجودها.
كيف ستكون العلاقات في هذا المكان؟ وما هو المنطق الذي سيحكم من لا منطق لوجودهم؟ مثلاً هل ستنسجم الحوريات اللواتي أتين من بحر العرب مع الجن الماجن؟ وكيف سينسجم الغول مع العنقاء من جديد في هذا العالم؟ وماذا تفعل الماعز الخضراء هناك ومن صنعها؟ وهل سيكون لعراف نجد دور في حكم هذه البلاد الخرافية؟
هذا ما تسرده لنا جمانة مصطفى في روايتها “سرمدان” الصادرة مؤخراً عن دار أثر، وهكذا صنعت بلاد الخرافات الشرقية السعيدة، البلاد التي “لا يستطيع أحد إنكار وجودها لأن لا أحد يعلم بوجودها أصلاً” كما تقول الرواية.
هناك حيث تعيش الخرافات -الطيبة فقط- بسلام، بعيداً عن محاولات إنكارها أو إثباتها من قبل العلماء. وبعيداً عن المنطق الذي يحكم عالم البشر.
لم تفتح مصطفى في روايتها التي يمكن تصنيفها ضمن “الخيال التاريخي” سوى “بوابة الشرق”، لذا فكل الأساطير والخرافات التي تسكنها شرقية عربية، وتتغير ألسنتها ويتبدل معجمها بحسب المكان والزمان الذي انتقلت منه إلى “سرمدان”، مثلاً يمتلك الصنم “عوض الدهر” لساناً عربياً فصيحاً، ومعجماً اكتسبه من توارد الأعراب إليه في ذلك الزمن.
ومثله يمتلك “الغول” لغة قديمة، بينما تمتلك “سرجنة” الإنسية التي تروي لنا الأحداث لغة أقرب للغة عصرنا، كونها انتقلت إلى سرمدان مع دقة الساعة الأولى التي فصلت العام ١٩٩٩ عن العام ٢٠٠٠، وقد استحقت هذه الإنسية التواجد في بلاد الخرافات برغم كونها من البشر لأنها “المرأة الخرافية”، فهي أجمل نساء الأرض وأشدهن حُسناً، وفوق هذا فهي الأذكى، والأكثر رشاقة، والأسرع في السباحة والركض، والأجود في عزف العود، وذات صوت عذب في الغناء والتقسيم.
يتبين من الأحداث أن اسم الغول في حياته على الأرض كان “كليب، قبل أن ينتقل إلى “سرمدان”، وقد حاكت له الكاتبة قصة متقنة حول علاقته بالعنقاء والخل الوفي قبل انتقالهم من عالم البشر، القصة التي استحقوا لأجلها أن تتناقل عنهم القبائل المثل الشهير “المستحيلات عن العرب ثلاث: الغول والعنقاء والخل الوفي”، ولأنهم من المستحيلات الثلاث فقد استحقوا الحياة في سرمدان.
تصنع العنقاء في الرواية على مهل حتى تصل إلى مرحلة الأسطورة، لكنها أسطورة عربية بامتياز غير متأثرة بوجود نسخ شبيهة عنها في الحضارات الأخرى، ومثلها تتأسس جميع شخصيات الرواية بأناة، فنفهم بداياتها في عالم البشر، وتطورها، واللحظة التي استحقت بها لقب الأسطورة أو الخرافة، وأخيراً ذروة حياة كل شخصية منها و”فوزها” بالانتقال السرمداني.
الشخصيات في الرواية هي الأساطير، حتى الأساطير المنسية كالـ”نسانيس” وهم أنصاف بشرية كانوا يعيشون في جبال اليمن، وكذلك الحيوانات الصحراوية المنقرضة والتي استنطقتها الكاتبة أو للدقة أحالت كونها ناطقة إلى ما ورد عنها في الشعر العربي القديم.
فتقول: “أما الأسد فاستنطقه النابغة الشيباني. وأما النمر فاستنطقه القتال الكلابي المضرحي. وأما الذئب فانضم متأخراً بعد أن استنطقه الفرزدق”.
كذلك انتقل إلى هذه البلاد السعيدة بعض الدراويش والمجانين الذين وصلت حالة الجنون المطبق بينهم وبين حياتهم على الأرض إلى الانفصال التام، لأن “غياب العقل التام في الجنون يساوي غياب العقل اللازم لصناعة الأسطورة”، كما تقول لنا الرواية.
تتطور الأحداث لينفتح عالمنا اليوم على سرمدان، وتتصاعد الحكاية الشيقة حين يختلط الواقع بالأسطورة، وحين يصبح لانعدام الزمن السرمداني وقت أرضي.
سرمدان حكاية عربية بامتياز، وتحمل لقارئها دفعات ودفعات من السعادة، وتعيد الإيمان بالخير، وبالحب، وربما –لمن يرغب- الإيمان بالخرافات حتى.
وهي الرواية الأولى لجمانة مصطفى بعد خمس مجموعات شعرية.