قراءة :: آسيا عياد الشقروني (كاتبة ليبية)
كان للأديب الراحل الدكتور علي فهمي خشيم شغفٌ كبيرٌ باللغات والحضارات القديمة، ورغم أنَّ تخصصه الأصيل في مجال الفلسفة، إلاَّ أنَّ الكثير من مؤلفاته التي فاقت الثلاثين كتاباً كان للتاريخ والحضارات واللغات القديمة نصيبٌ كبيرٌ في عناوينها، مثل “آلهة مصر القديمة”، و“هؤلاء الأباطرة وألقابهم العربية”، و“الأكدية العربية“، ولعل رواية (إينارو)، موضوع هذه القراءة، هي الرواية الأدبية الوحيدة التي كتبها، وهي أيضاً تتناول شخصيةً تتعلق بالحضارات القديمة.
ملخص الرواية
تتحدث رواية (إينارو) عن أحداث جرت في القرن الخامس قبل الميلاد في المنطقة الممتدة من الجبل الأخضر في ليبيا إلى بلاد الرافدين بالعراق، وتدور أغلب وقائعها في منطقة دلتا النيل بمصر. ففي البداية يحدثنا الراوي عن الظروف التي سبّبت إحتلال الفرس لبلاد مصر، ثم ينتقل بنا ليعرفنا بالظروف التي جعلت العديد من القبائل الليبية تستقر في مصر وتندمج مع القبائل المصرية، وكيف كان الليبيون والمصريون والأغريق يرزحون تحت نير إستعمار الفرس، والحديث عن المعاملة السئية التي يتلقونها، والظلم الواقع عليهم جراء فرض ضرائب باهضة عليهم وممارسة طرق جباية جائرة ضدهم.وفي ظل تلك الظروف يولد طفل ليبي يدعى (إينارو بن بسماتيك) ينحدر من الأسرة السادسة والعشرين التي أسست ملكها في القرن السادس قبل الميلاد واستمر حكمها حتى غزو الفرس خلال القرن الخامس قبل الميلاد.يكبر بطل الرواية (إينارو) ويتعلم القراءة والكتابة على يد الكهنة، كما يتعلم فنون القتال بالمدرسة الاغريقية، وفي كنف والده زعيم القبائل الليبية يتعرف على أسرار الحكمة والزعامة.وبعد حادثة إنقاذ صديقه المصري الأصل “شيحو” من سياط الفرس، ودفاعه عنه، حتى أدى لقتله جندياً فارسياً ومن ثم فراره وإختباءه عند صديقه الإغريقي “كيمون”، فقد جعلت هذه التداعيات أبيه يتنازل عن زعامة القبائل الليبية لإبنه (إينارو) الذي يبدأ بالحديث عن الثورة ضد الفرس، وينجح في رحلاته للواحات وللشرق والغرب من أجل توحيد القبائل الليبية والمصرية، والحصول على دعم الأسر الإغريقية ليقود ثورةً على الفرس لاسترداد مصر من قبضتهم، وينجح فعلاً في ثورته ويتم تنصيبه فرعوناً ليدوم حكمه حوالي ثمانية سنوات وبعدها يقاد أسيراً لعاصمة الفرس ويتم إعدامه. > فكرة الروايةبالرغم من أن الكاتب يقول بأن الرواية عبارة عن أحداث تاريخية واقعية ولا وجود للخيال فيها، إلاَّ فيما يخدم النص السردي بما يلزم لتكون رواية أدبية، ولكن هذا لا يعفيه من أن الرواية جاءت مفتقرة لروح الأدب ولغته الرقيقة، فنحن نعرف الكثير من الروايات التاريخية الصرفة مثل رواية “الحرب والسلام” لتولوستوي، ورواية “قصة مدينتين” لتشارلز ديكنيز، ولكن شخوص الرواية والوصف الإجمالي والتفصيلي فيهما، والأهم الوصف الفكري، كل هذا جعل منهما روايتين خالدتين.وفي نهاية رواية (إينارو) يورد الكاتب عنواناً جانبياً هو “للذين يتسألون“ يقول في مستهله: (ليس في هذه الرواية وأحداثها شيء من نسيج الخيال، بل هي وقائع تاريخية معلومة مسجلة، وكذلك الشخصيات المهمة في تسلسل مواقفها وأسباب هذه المواقف ونتائجها، ولم يكن للخيال أي دور سوى إضافة بعض الشخصيات المساعدة أو الحوار والحركة الضرورويين لما تستوجبه الحبكة الروائية في العادة). وهذا يجعلنا نُشيد بمجهوده في تسجيل هذه الحقبة التاريخية بطريقة سردية مباشرة يتيحها لمن يود أن يدرس هذه الحقبة الزمنية، ويتعرف كما قال الكاتب على الأحداث والمسببات التي جعلت هذه الحروب تدور هنا وهناك ومن هم صانعوها ومن كان وراءها.كما دعم الكاتب روايته (إينارو) بعدة نصوص مقتبسة من كتاب (هيروديت) وأخرى من (التوارة) وتحديداً من سفري (عزرا) و(نحيما)، وأيضاً بعض النصوص والأشعار المقتبسة من بعض المؤلفات المختلفة التي يورد قائمة بها في نهاية الرواية. ومع ذلك فإن الكاتب لم يتوانى عن بث بعض أفكاره الخاصة عبر أسطر الرواية، ولكن ظلت فكرتها العامة تتمحور حول شقين: الأول هو الإشادة بالليبيين وأصلهم وقوتهم وشجاعاتهم على مر العصور، أما الثاني فهو إستحسان فكرة الديموقراطية المباشرة وحكم الشعب لنفسه. ولكن رغم كل ذلك فإن (إينارو) كانت أقرب لتصنيفها في خانة البحث أو الدراسة السردية الإخبارية الخالية من روح الأدب ولغته التعبيرية الرقيقة.> الحبكة والأسلوب واللغة تميزت رواية (إينارو) بحبكة رائعة ولكن لم يكن للكاتب الفضل الكامل في ذلك لأنها تتحدث عن حكايات واقعية حدثت خلال أكثر من مئة عام، وترسم مشاهدها بعبارات وحروف لغوية دقيقة، اتسمت بالروعة في مفرادتها المنتقاة بعناية فائقة، فظهرت بعيدة عن الضحالة والتقريرية، وأيضاً خالية من الغموض والرمزية، بل ظلت طوال فصول الرواية سلسة وسهلة مناسبة لكل قارئ.أما الأسلوب السردي فقد كان مباشراً جداً، وهذه إحدى النقاط التي أضعفت الجانب الأدبي للرواية، كما كان هناك حشو في بعض الفقرات، خصوصاً الذكر المستمر للآلهة وتعدادها أكثر من اللازم، الأمر الذي يجعل القارئ يشعر بالملل في بعض الآحيان..
شخصيات الروايةبما أن عنوان وإسم الرواية هو (إينارو) فإن هذه العتبة النصية الأولى تشير إلى أن (إينارو) هو الشخصية الرئيسية في هذا العمل، ولكن بما أن الكاتب يتحدث عن فترة ما قبل مولد البطل (إينارو) وكذلك فترة ما بعد مولده، فإننا نجدها تحتوي على العديد من الشخصيات الأخرى والتي يفوق عددها العشرين شخصية وأكثر، إضافة إلى أنه حتى الشخصيات المعاصرة لحياة بطل الرواية (إينارو) يفوق عددها العشرة شخصيات. وربما بسبب هذا العدد الكبير لم يقم الكاتب بتمييزها عن بعضها لا من حيث الملامح الفيزيائية، ولا من حيث السمات الشخصية مثل الهدوء والمرح والغضب وغيرها، ويظل أحسن وصف نتحصل عليه هو وصف (إينارو) الشاب كما ورد بالرواية على النحو التالي: (وكان شابٌ طويلُ القامة في العشرين من عمره يمر غير بعيد. كان عريض المنكبين يتدلى رداؤه المصنوع من الكتَّان الأبيض على كتفه الأيسر وبدا سالفاه ينحدران على صدغيه، تعلو رأسه ريشة، منتعلاً خُفاً من الجلد، شاداً وسطه بحزام من الجلد أيضاً مثبتاً فيه خنجراً قصيراً. وكان باديء الوسامة زادتها لحيته السوداء الظاهرة أسفل ذقنه).
وهذا الوصف هو أغزر وصف نطالعه خلال الرواية بأكملها، ونلاحظ فيه أن اللباس قد أستحوذ على معظم الوصف، وهذا الأمر طال معظم الشخصيات الأخرى.وحتى شخصية والد (إينارو) والذي كان دوره رئيسياً في الرواية، لم نتعرف عليها بشكل مفصل ماعدا أنه شيخ في الستين من عمره، وكذلك أصدقائه لم نعرف أي وصف لهم، وكل هذا يجعلنا نرى الشخصيات بمنظارين هما إما أن تكون الشحصية لإنسانٍ كبير السن فى عمر والد (إينارو)، أو شخصية شاب في عمر (إينارو) نفسه، باستثناء (كيمون) صديق البطل (إينارو) والذي عرفنا أنه كثير المزاح والهزل وعدم الجدية، وقد ظلت هذه الصفات ملازمة له حتى في المواقف الجدية وهو ما أعطى الشخصية نوعاً من الضعف في تركيبها، بحيث لا يستوي شخص عاقل متزن لدرجة تمكنه من أن يكون سفيراً للبطل (إينارو) يبعث به إلى أثينا لنيل الدعم، وفي ذات الوقت لا يتوقف عن المزاح في حواراته حتى في المواقف التي تتطلب الجدية.إن بناء شخصيات رواية (إينارو) بهذا المستوى جعلها لا تترسخ فى الذاكرة، ولا تتولّد معها أية عاطفة تنجذب إليها وتتخلق معها مشاعر وأحاسيس وجدانية، بل ظلت شخصيات متماهية لا يمكن تميزها إلاَّ بإسمها المباشر الصريح، وهذا ينطبق على رجال ونساء الرواية جميعاً بمختلف أصولهم.> الحوار في الروايةظهر الحوار فى الرواية مباشراً متتابعاً بنفس الوتيرة، ونفس الأسلوب النمطي بين كل المتحاورين، وهذا بث نوعاً من الملل في النص الروائي، كما جاءت بعض جمل الحوارات في غير موضعها، أو بالأحرى لا يمكن أن تقال في هكذا مقام أو مشهد حواري، وللبرهنة على ذلك أقتبس من حوار طويل دار بين ملك الفرس (قمبيز) وكبير وزرائه الإغريقي (فانيس) حين يعقب كبير الوزراء على قصة معينة يرويها الأخير بقوله: (دسائس المُلك ومؤامرات أفراد الأسرة الحاكمة المعروفة.. ثم ماذا حدث؟).وهذه العبارة التي تضمنها الحوار الثنائي تجعلني أتساءلُ هل يعقل أن يسمح وزير لنفسه بالإشارة في حضرة ملك إلى أن الملوك وأفراد أسرهم هم من يصنعون الدسائس ويحيكون المؤمرات؟ ألم يكن من الأحسن استبدالها بجملة تعبر عن المعنى ولكنها تقال بأسلوب أكثر لباقة ودبلوماسية، خاصة ونحن نعرف ما يكون عليه كبير الوزراء وغيره من الحاشية الملكية من الأدب والحكمة خصوصاً في حضرة مليكيهم.وأيضاً مثال أخر حين يتحدث (فانيس) عن أصل زوجة الملك (أحمس) أي الملكة ويقول: (وتخَّير السيدة “لاديكي” ليقترن بها، بعضهم يقول إنها إبنة باتوس، ويقول الأخرون إنها إبنة أركسيسلاوس، وهما من ملوك قورينا، والرأي السائد أنها إبنة كريتوبولس، وهو أحد وجهاء المدينة وكبار أعيانها).ونلاحظ هنا أنه قد غلبت على الكاتب خاصية الكتابة البحثية بفكره المتباين، فهو لم يعرف تحديداً إبنة من تكون “لاديكي” هذه التي إقترن بها الملك أحمس، وأسبغ هذا في حوار “فانيس” وهو لا يجوز، فكيف لشخص معاصر للحدث وشاهد على هذا الزواج وهو بالتأكيد ليس زواجاً عادياً إنما زواج ملك مصر، ولا يعرف إبنة من هي تحديداً ويقول الرأي السائد وغير المؤكد؟.إن رواية (إينارو) للدكتور علي فهمي خشيم ليست من الروايات التي تقراءها وتطرحها جانباً، بل هي رواية توثق حقبة تاريخية هامة، بطريقة سهلة ممتعة، وهي تصلح وبجدارة لأن تدرس للمهتمين بالحضارات القديمة، أو للتعريف بالقادة الليبيين العظماء القدامى، وأنا لا أنكر متعتي بقراءتها حيث تكونت لدي معلومات هامة، وصورة بانورامية لما كان يحدث في تلك العصور الغابرة، وهي في كل الأحوال تقدم ملخصاً رائعاً يجعلك ترى التاريخ من زاوية أخرى
المصدر :: السقيفة الليبية