بقلم :: عمر رمضان
يقول شاعر قديم عن أصول ” الرفقة ”
( خيار الرفق ودك يجي متلاقي / مش صاحبك في خير وانت شاقي )
وفي الحق أني لاأعرف قائل هذا البيت الرائع ولاأعرف قصيدته كاملة ولكني أعرف ان هذا ” البيت ” يجري في عروقي دما وفي صدري أنفاسا وفي حروفي وهجا وفي قلبي نبضا … فلا أذكر أني تصورته / ولومرة / كلاما من حروف وإنما هو يجري ويتسرب في حياتي حياة كاملة بأنفاسها وناسها وإحساسها وأقباسها وجلاّسها
وفي حياتنا كثير من الأشياء ترتبط عندنا بـــ كثير من المعاني أو الناس فـــ بعض الألوان وبعض الأصوات وبعض العناوين إلخ ترتبط عندنا بـــ حوادث في حياتنا أو هي ترتبط عندنا بـــ ناس لهم في حياتنا أصداء لاتغيب
وهذا البيت الذي بدأت به الحديث هو من بعض “الأشياء ” التي صارت ” شفرة ” في المشاعر فهي تقول لك (فلان ) وحدث كذا وكذا بمجرد مرورها ببالك
سمعت هذا البيت أول مرة من الرفيق الصديق الأنيق الرقيق الشاعر الكبير (عبد الله منصور ) فك الله أسره وكنا في أحد أودية ” سوف الجين ” في نزهة
إي والله نزهة …. وفي الصحراءالقاحلة والوديان الواسعة حيث لاكراسي ولاصالونات ولاخدم ولاحشم ولاحرس ولاجرس وحين جلسنا ” بيش انديروا طاسة شاهي ”
وذهب بعضنا يجمع الحطب والآخر كان يجهز أدوات الشاهي كان (عبد الله منصور ) ينفخ النار لـــ إشعالها وتجهيزها وحين وقعت عيني في عيني كان ” دخان النار ” يغطي وجهه وكان ” الدموع ” على وجهه من أثر دخان النار فـــ مازحته
ـــــ يا بن عمتي … تريّح مالك ومال النار والدخان
فــ قال وهو يشير إلى الجميع وهم يتحركون وقال
ـــ ياخال
( خيار الرفق ودك يجي متلاقي
مش صاحبك في خير وانت شاقي )
ومن لحظتها رسخ ” البيت ” في مشاعري موقفا وليس شعرا وصورة وليس كلاما وإنسانا وليس حروفا وصاحبا وليس محفوظا
وعبد الله منصور (فرّج الله كربه ) يعرف الذين خالطوه أنه رقيق المشاعر حلو العشرة طيب الكلمة نظيف السريرة وهو غزير المحفوظ من الشعر الشعبي بشكل ملفت للنظر ووافر المحفوظ من حكايات المأثور القديم وقد استففاد من هذا المحفوظ الغزير في شعره وظهر أثر ذلك في رقة ودقة كلماته وحلاوتها التي جاءت من كونها وليدا متطورا من تراث جميل فهي مفردة تربّت في مهد هذا الموروث ثم ارتضعت منه ثم اغتسلت بنقاوته وحلاوته وطلاوته وبهاوته فــــــ جاءت فيها شموخ القديم وحلاوة الجديد
والذين خالطوه يعرفون أنه رفيق يتفقد رفاقه ويسأل عنهم ويحن إليهم وهو في عشرته ” عاطفي ” إلى أبعد حد وخجول وشديد الحياء ولكنه نظيف الحنايا ظاهر الخفايا
وكانت علاقته بــــ الشعر علاقة قوية حادة عنيفة حقا
فهو لم يكتب من أجل شيء … كالشهرة والمال والتقرب من أحد
وإنما هو كتب لأن الشعر كان يتدفق فيه فأجبره على أن يفيض
كان يتدفق شعرا فلم يكن في وسعه إلا أن ينهمر شعرا
ولكنه كان يدقق كثيرا في ” المفردة ” وفي ” أسلوب التعبير ” وفي ” الفكرة ”
فــــ كان يجعل من ملامح الآخرين وهم يسمعونه مقياسا لـــ نجاح أو فشل شعره
كان يلقي شعره ويتابع ملامح السامعين فإذا لمح حركة ما … تعليقا ما …. أولا حظ عدم الاهتمام بل عدم الإعجاب الحقيقي الذي لاتقوله الكلمات
إذا لاحظ شيئا من هذا عاد فـــــ نقّح وغيّر وهذب وربما دفن النص إلى الأبد وانا / وهذه شهادة / أعرف له نصوصا كثيرة قرر دفنها لالشيء إلا لأنه لاحظ عدم اهتمام فلان أو علان بها حين سمعها منه وفلان وعلان هنا هم … أصدقاء ليس أكثر
فـــ هل يعتبر هذا ضعفا ؟؟ إن كان هذا ضعفا فهو الضعف الذي هو أفضل من الجرأة فالوسوسة الفنية التي تهجس في حنايا الشاعر فتجعله يتردد ويخاف من شعره … يخاف النقد … ويخشى السخرية ويخاف أن يكون شعره ” مجرد كلام حلو” وليس شعرا
الشاعر الذي تسكنه مفردته وفكرته وموسيقاه وتظل تتردد فيه هاجسا ووسوسة يعيدها ويرددها ويعيد صياغتها وتقليبها على كل وجه ويعيد استماعها بـــ كل أذن حتى يرى حلاوتها تنساب في كل روح تسمعها … ذلك هو الشاعر
الوسوسة عيب …. إلا في الفن فهي علامة قوة على تهذيب وتزيين وتحلية الفن
إن الشاعر المسكون بــــ تجويد وتحلية وتنقية وتصفية مفردته هو شاعر مسكون بالهاجس الفني الذي يرى نفسه مسؤولا عن تحريك كل روح في كل مخلوق ولهذا فهو يردد شعره أمام الجميع لينال إعجاب الجميع أو ليصمت عن الجميع
كان / مرة / يتجهز لكتابة نص تغنيه له ( أسماء المنور ) وكان قلقا كعادته متوترا كماهو طبعه حين يسكنه هاجس الشعر وجلست معه طويلا وهو يقلب في يده كتابا عن ( أغاني العلم ) وفي كل مرة يسمعني نصا من ” نصوص العلم ” ونتحدث عنه وعن قوته وحلاوته فــــ أغاني العلم بقية سحر سقطت من ساحر فاغتسلت منه فصارت حلالا
وحين هممت بالخروج من عنده سألني
ـــــ ياخال …. شن أغنية العلم اللي قالتها تونس مرة ؟؟؟
وتونس ـــ هنا ــــ هي الفنانة السيدة تونس مفتاح وكانت قالت لنا مرة غناوة علم
( مشيت والعيون وراك …. قليل خير مابيت تلتفت )
وحين قلتها لـــــ عبد الله … وضع الكتاب ونهض وهو يقول لي
ــــ مربوحة …. خلاص القيتها
فــــ خرجت وقد عرفت أنه وجد بداية ما للأغنية التي تحتله
وبالفعل كتب بعد أيام رائعته التي تشبه ” الفسيفيساء” أغنية ( تواريت )
والتي يقول طالعها
( تواريت ….. ماواطيت عيني عنك // ولو كانها بالود ماتمشيش
… غير التفت نملا عيوني منك // مستعجل عليش / ماتمشيش
(مشيت والعيون وراك …. قليل خير مابيت تلتفت )
كبدك غليظة يادوايا ودايا / لا حن قلبك لابكيت معايا
و…………………………… تواريت )
وأنتم إذا أعدتم قراءتها الآن فـــ ستعرفون أنها ” فسيفساء” فنية حقا
فـــ بدايتها تشطير غنائي عادي في شكله وإن كانت صوره رائعة
ثم يتلوه أغنية العلم التي مهد لها تمهيدا غريبا جاءت فيه مجبورة جبرا لأن النص لايكون إلا بها فالشاعرر قد مهّد لها مكانها برفق تمهيدا من حرير
ثم يختم بأغنية من وزن ” بورجيلة ” من نوع ” العتبي ” الطرابلسي
والبداية بـــــ تواريت من وثبات الخيال الساحر
تواريت هي غير ” عدّيت ”
عديت تعني ” مشيت ” و… كفى
تواريت … اختفاء تدريجي مرحلة مرحلة يتابعها العاشق وهو معلق البصر بهذا الذي يتوارى ولهذا قال ( ماواطيت عيني عنك ) وهي لاتكون إلا لــــ تواريت
والمكان عند عبد الله منصور قد يكون ” شفرة ” تبعث في روحه أسرارها التي لايعرفها غيره فيقف أمام المكان وقد جاشت نفسه بما فيها وبما في المكان فلايراه مكانا في الأرض وإنما هو مكان في القلب وفي الحياة وفي الأمس والغد
يقول وقد وقف على قبروالدته يرحمها الله بعد زمان طويل من وفاتها
( شن جاب رجلي وين تبكي عيني / بلا صدر دافي يضمني يواسيني )
وهو بيت من صدقه ومن حرارته يقول لك في كل نفس منه إن الشاعر يبكي أمه حتى وأنت لاتعرف من يعني الشاعر بهذا الشعر الباكي
وجاءت به الصدفة مرة إلى مكان كان مرتع صباه ثم تغيرت ملامح المكان فلم يبق فيه من قديمه شيء وتغيرت الظروف بالشاعر الذي خلع الزمن عنه حلة الصبا والفتوة
فرأى الشاعر / بعين الشعر / كيف خلعت الدنيا عنهما ماكان يزينهما معا
المكان تغيّر
والشاعر تغيّر
ولكن المكان هو المكان ….. رغم أنف التغيير
والشاعر هو الشاعر رغم أنف الزمن /// يقول عبد الله منصور
( جيت لمكان وجايه من قبل / غير تختلف الاوقات وظروف الرفق
.. دقات قلبي كيف دق الطبل / ودمعي غلبني للكلام سبق
دقايق لزمت الصمت
لين الرفيق نشدني
قت له … بالله لاتواخذني
خذاني هوى لوكان بيا اعلمت
ماتلومني …. وتقول عندك حق )
فــــ الشاعر الذي ينطبع المكان فيه فلايراه حجارة ولاترابا إنما يسري في حناياه حياة دفاقة خفاقة ممتلئة بالأحياء والتعبير … هو شاعر مسكون بالشعر وبالحياة
والشاعر الذي يستوقفه طلل باهت من بقايا قبرأمه فلايملك إلا أن يقف عليه ليقرأ الفاتحة ولتعود به نفسه طفلا يحتاج (صدر دافي يضمني يواسيني ) هو شاعر ممتليء بالحب ومسكون بالعواطف وليس فيه غير الشعر والشعور
وكانت الرقة تلازمه وتسكنه حتى وهو يبتهل إلى الله فلم يكن ابتهاله ” تقليديا ” مملءا بالنصيحة والحكمة الجامدة الخامدة التي تدل على محفوظ في الذاكرة ولاتدل على مشاعر حية دافقة وغنما كان ابتهاله رقة وحبا وخشوعا يمتليء بأنسام طيبة / يقول
( وين ما تغيب الرحمة
ووين ما طريقي في الشدايد زحمة
ونضيّع طريقي
ونفقد رفيقي
وحتى شقيقي
ويجف ريقي
يجي في خفا ودك
وباسط يدك
وبرحمتك تفراج
برحمتك تفراج )
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيها الغوالي هذه أطياف من أطياف عن الصديق والرفيق والغالي الأستاذ (عبد الله منصور ) هجست بها خواطري حين تلقيت اتصاله منذ يومين يطمئنني عن نفسه وعن رفاقه في الأسر وهو يهدي سلامه إليكم جميعا ويقول لكم
( مع ريح الهوى والشوق …. نسلم عليكم
…. ومشتاق ليكم
…. وقبل المساء ودي …… ودي انجيكم / ونسلم عليكم )
ملحوظة / هذه الأغنية غناها ولحنها الفنان خليفة الزليطني
وهي أول عمل كتبه عبد الله منصور حين كان في ” روسيا ” في دورة عالية على ” الصواريخ ” التي هي تخصصه العسكري …. فك الله اسره