/الشاعر والباحث / عبد الستار سليم
المدّ احون ، و المنشدون ، والفنانون الهائمون بفنهم ، علي باب الله ، يغنّون علي الأرغول، والكشّاكون، والمواويّة ، والأدباتية ، الذين يستجدون الناس في الطرقات ، وفي المحافل العامة ، بأنواع من الشعرالفكاهي، والزجل الساخر، كل هؤلاء ، الذين كانوا يترنّمون بالشعر ، لايضيرهم ولا يضير الفن ، أو يغض من قيمته، أن يستخدمه هؤلاء ، كوسيلة لاسْتدرار نوال الناس وعطفهم، وكان يجب علي الآخرين ألا ينظروا إليهم نظرة المهانة والابتذال، وهم الذين خلّفوا للفن أروع الآيات ، وقدموا للإنسانية أمتع الترانيم، وأعذب الألحان ..
فـ «هوميروس» – الذى يسمّونه (لحن الشعر الباقي علي الزمن) ، ورائد الشعر والفن أمام كل شاعر وفنان، ( كما يقول محمد فهمي عبداللطيف ) – لم يكن إلا شيخاً ضريراً، رثّ الهيئة ، زريّ الثياب، يستجدي الناس بأناشيده، ويمشي متنقّلاً بين القري والمدن اليونانية ، متغنياً بمقطوعاته وأشعاره، ومن مجموع هذه الأشعار تألفت قصيدتاه « الإلياذة » و « الأوديسة»- على أصحّ الأقوال – ..
كما أن الشاعر « أبا عبادة البحتري» كان في مطلع حياته ، يطوف بالأسواق في أسمال بالية، وفي يده “مِخلاة ” – يتلقّى فيها الهدايا العينية -، فكان ينظم الأشعار لباعة الخُضر والبقول والفاكهة ، ينادون بها- أى بهذه الأشعار – علي سِلَعهم في الناس، و كان ” البحترى “يأخذ الأجر علي ذلك ..
كانت هناك طائفة من الأدباتية تسمى ” طائفة المواويّة ” ، تقف أمام أبواب أهل القرية – بابًا بابًا – تمدح رَبّ البيت باسمه ، مبتدئين مدحهم بالبيت الشعرى الذى يقول :
(الـحمــــدُ لِـرَ بٍّ مُـقْــتَـدِ رِ
خلَـق الأوراقَ على الـشّـجَـرِ )
حتى ترى المِنَح ، والهدايا ، و العطايا ، وكما نعلم ، فإن الصورة المحفوظة للأدباتى ، بطبلته ” الدّرَبُـكّة “، و زِيِّـه المرقّع بالقماش الملون ، و طرطوره الذى يحمل فى طرفه كرة صغيرة من القماش ، يحرّكها مع رأسه يمينًا ويسارًا ، صابغا وجهه باللون الأبيض وخطوط من الأحمر والأصفر ،كان السبب فى رسم الضحكة على وجوه الكثيرين . . !
والمدّاحون لا يعتبرون انفسهم شحاذين، يطلبون العطاء بالاستجداء والتسوّل، ولكنهم يعتبرون أنفسهم أهل مهمة دينية ، يزْجون بها إلي الناس مواقع العبرة والعظة، ومن الأزجال التي يتغنون بها ، قولهم :
( أمدح اللي شعّ النور من مقامُـه
القمر والشمس ما أحلي لِثــامُــه
كل ما أمـدح واكــرّر في كــــلامُـه
يستريــح القلب حمال الأســيّـة )
أما المنشدون، فلا نقصد أيّا من أولئك الذين تخرج في مدرستهم عدد كبير من أعلام الغناء والتلحين في الجيل الماضي ، أمثال عبده الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ سيد درويش ، والشيخ زكريا أحمد، بل نقصد طائفة الفنانين الهائمين ، الذين يطوفون بالقري والمدن، وحيث تقام الموالد للأولياء ، وفي أيام المواسم والأعياد، وهم يتغنّون بالأشعار والأزجال في أصوات جيّـاشة عميقة النغم، في فن هائم مرسل ، مع الطبع والمنطق علي السجيّة، وهم يغنون من شعر الإمام الشافعي:
(دع الأيـامَ تفـعل ما تــشـاءُ
وطِبْ نفساً إذا حكم القضاءُ
ولا تـجْزَعْ لِـحــادثة اللـيالي
فـما لحـوادث الدنـيـا بقــاءُ )
وكذلك كان يفعل الكشّاك والمواوي ، فالكشّاك – الذي لا يملك من حطام الدنيا ، غير حمار عليه ” خُرْج ” و ” حِرام ” من صوف الغنم ، هو فِراش الصيف ، و غِطاء الشتاء ( كما يقول الأبنودي )، وهو وُجِد ليُشاهَد ، أي (لتتفرّج) عليه ، وليهَبك ما تخجل – أنت – أن تفعله ، وما قد تحسّ أنه ( قِـلّـة قـيمة )، والكشاك قد يتشابه – في ذلك – مع لاعب السيرك ، الذي أطلقوا عليه لفظ «البلياتشو» ، ولكن البلياتشو كان صامتاً، والكشاك يغنّي عن الأجاويد ، فيقول :
( اللي حمومهم لبن ،
وأنـفـاسهم الطـيب ،
أعـــلام الـقــبايــــل،
حـلويــــن الشمايل،
أُصَـــلَا الأصـــايـل ،
ســــلامٌ عليـــهـم ،
مــن بــعـــــــيــد)