أبوالقاسم الاصفر
لا مناص من قبول هذا الواقع ولا مهرب من هذه الحقيقة المعاشة والتي نعاني منها اليوم قبل الغد ولا علاج لهذه المشكلة التي أصبح القضاء عليها يجلب مشاكل أكثر تعقيدا لأن كل المقترحات المطروحة لمكافحة الهجرة غير الشرعية وتدفق المهاجرين إلى ليبيا غير مجدية ولن تفضي إلى حلول جذرية وأن الهدف من هذه الهجرات ليس العبور إلى السواحل الأوروبية فقط بل هو توطين أكبر عدد من الأفارقة على هذه الأرض الواسعة المساحة والقليلة السكان والغنية بالثروات وليس كما يصوره لنا الإعلام مجرد عبور مهاجرين إلى السواحل الأوروبية فقط لكن حقيقة هذا العبور هو أكبر غطاء أمني وذريعة لمشروع تغير ديموغرافي كبير يجعل من ليبيا أرضا مشاعة لكل من يصل إليها وحقا شرعيا تفرضه القوانين الدولية والاستعمارية وصمام أمان لأوروبا يعمل على فلترة من يصل إليها عبر الأراضي الليبية .
والجدير بالذكر هنا أن الهجرات من وإلى دول الجوار مع ليبيا لم تنقطع منذ قرون عديدة بسبب تقلبات الحياة الاقتصادية والسياسية، وتجدر الإشارة هنا أن هذه الهجرات لم تكن غير شرعية بل حركة مواطنين طبيعية بين أقاليم الدولة الإسلامية حيث عاشت قبائل التبو والطوارق والعرب ردحا من الزمن في أرجاء الصحراء الكبرى تحت سلطان الدولة الإسلامية وتنقلوا بين دول الساحل والصحراء دون قيد أو شرط من أفريقيا الوسطى ومالي إلى جنوب ليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا لا تحكمهم حدود ولا جوزات سفر ولا جمارك حدودية إلى أن سقطت الدولة الإسلامية وتقاسم الاستعمار الأوروبي أراضي القارة الأفريقية ومع ذلك لم تنقطع هذه التنقلات العائلية والقبلية لمختلف القوميات في دول الساحل والصحراء و شمال أفريقيا إلا بعد أن رسمت الحدود السياسية وتحولت دول القارة من هيمنة الاستعمار المباشر إلى استعمار غير مباشر يمثله رؤساء هذه الدول حيث أصبحوا هم من يحافظ على مصالح الغرب على حساب بني جلدتهم .
تذكر كتب التاريخ منذ العهد العثماني أن مدينة مرزق عاصمة إقليم فزان كانت مركزا للتجارة العالمية وملتقى القوافل بين شمال القارة الأفريقية وجنوبها وشرقها وغربها مما أتاح ارتحال كثير من التجار الليبيين من مختلف القبائل العربية إلى دول الجوار الأفريقي والاستقرار فيها والاندماج مع سكانها وتشكيل مجتمعات عربية في تلك الدول احتضنت من لجأ إليها من الليبيين فيما بعد هربا من الاستعمار الإيطالي الذي غزى ليبيا في بداية القرن العشرين ، وقد عاد منهم من عاد إلى ليبيا إثر اكتشاف النفط في ستينات القرن الماضي وما بعده ومنهم من آثر الاندماج في المجتمعات الأفريقية المختلفة وأصبح مواطنا أفريقيا يحمل جنسية تلك الدول ويشارك في الحياة الاجتماعية والسياسية بكامل حقوق المواطنة.
غير أن التبو الذين تتركز مواطن سكنهم حول جبال تبستي في شمال تشاد والنيجر وصول إلى مناطق أم الأرانب ومرزق بمنطقة فزان بليبيا وجنوبا إلى صحراء تينيري بالنيجر وصولا إلى تخوم أفريقيا الوسطى، وشرقا إلى السودان هؤلاء كانوا أقل حظا في الاندماج في مجتمعات الدول التي عاشوا فيها بسبب تمسكهم بالرباط القبلي أكثر من تمسكهم بالرابطة الوطنية مما عرضهم لصدامات ومواجهات عسكرية مع كل من حكومات تشاد والنيجر وليبيا وعلى هذا المنوال كانت حياة الطوارق الذين عاشوا وتنقلوا عبر الفيافي في الجانب الغربي من الصحراء الكبرى الذي يبدأ من الجنوب الغربي لليبيا ابتداء من أوباري وغات اتصالا بجنوب الجزائر والمغرب إلى موريتانيا ومالي وبوركينافاسو غير أنهم كانوا أوفر حظا من التبو حيث اندمج الكثير منهم في الحياة المدنية في ليبيا والجزائر والنيجر وقد تقلد الكثير منهم المناصب والقيادات العسكرية والسياسية في تلك البلدان.
مما تقدم فإن فزان تعتبر جزءا من مواطن هذا المزيج الاجتماعي من العرب والطوارق والتبو إضافة إلى بعض الأصول الزنجية والتي كانت جزءا من المستعمرات الفرنسية المسيطرة على دول الساحل والصحراء وتم تشتيتهم وتقسيمهم بين عدة دول في هذه المناطق الصحراوية تفصلهم عن أبناء عمومتهم حدود سياسة أعدت مسبقا كمناطق توتر على غرار جبال كردستان وكشمير ومواطن الهوتو والتوتسو والمساي في شرق أفريقيا والتي يمكن إثارة النعرات القومية والقبلية فيها لإشعال الحروب فيما بينها أو بينها وبين الدول المجاورة لها عندما تقتضي مصالح الغرب السياسية ذلك .
لا أحد لم يلاحظ أن وتيرة التغير الديمغرافي في فزان قد تزايدت خلال العشرة سنوات الأخيرة بسبب فتح الحدود على مصراعيها وأهمال وانشغال الحكومات المتعاقبة بالصراعات السياسية والعسكرية فيما بينها الى درجة ان مرزق وأوباري قد غزتهما قوى خارجية وهجرت أهلهما عن مساكنهم وممتلكاتهم كما أن سبها قد اتسعت جغرافيا بالعشوائيات لملل وأجناس مختلفة من البشر وعمت الأسواق لغات ولهجات أفريقية لا تكاد أن تتبين معانيها حتى لمن تعود على سماع اللغات عن أفريقيا منذ زمن بعيد كما أن ملامح المدنية قد اختفت تماما من أحيائها وشوارعها فاختفت الطرق المرصوفة واختلطت بأرصفة المشاة وأصبحت قيادة السيارات في المدينة مثل حركة قطعان الماشية والأغنام تخرج في أي اتجاه نزولا وصعودا فوق الأرصفة ووسط برك المجاري وعلى أكوام القمامة عن اليمين وعن الشمال تقودها نساء وأطفال ورجال سود ملثمون لا يعرفون قانون ولا إشارات مرورية ولا أحقية أو أسبقية.
لا يخفى على أحد في فزان أن وتيرة الهجرة إلى ليبيا وعودة من هاجر منها قد بدأت في التصاعد في ثمانينيات وتسعينات القرن الماضي حيث حرص القذافي على عودة أعداد كبيرة ممن ينتمون إلى أصول ليبية في كل من تشاد والنيجر على حساب الدولة الليبية واستغلال فقرهم بتجنيد شبابهم في قواته المسلحة وبدلا من أن تسعى الدولة لتعليمهم ليساهموا في تنمية وبناء البلاد أثيرت بوجودهم النعرات القبلية وأصبحت كل قبيلة تستجلب من تستطيع ممن يقبل الانتماء إليها سواء كانت أصوله الليبية صحيحة أو مزورة وقد تم تسكين أعظمهم في مخيمات حول سبها مثل مخيم ثمانين واثنين وثمانين وطاردونا وحجارة القديمة والطيوري كذلك حول مرزق وأوباري وغات وأم الأرانب وزويلة وتمسة وكل هذه الأحياء لا تمتُ إلى المدنية أو الحياة العصرية بأية صلة لا من ناحية الخدمات و المرافق ولا من ناحية التخطيط العمراني بل هي نسخة طبق الأصل لأحياء أنجامينا الخارجية إبان الثمانينات.
مما تقدم فإننا يمكن أن نحصر مصدر هذا التزايد السكاني والاستيطان في مناطق الجنوب والتغير الديمغرافي في فزان الذي تدفع به وتغذيه ثلاثة مكونات اجتماعية .
المكون الأول أو الشكل الأول هو القبائل العربية التي كان لها امتدادات في كل من تشاد والنيجر والسودان وهم من تم جلبهم إلى ليبيا واستقر بهم المقام أو تم تسكينهم كما أسلفنا في الأحياء العشوائية حول مدينة سبها.
المكون الثاني أو الشكل الثاني هم قبائل التبو ومن حولهم من القرعان والقبائل التشادية الأخرى والتي لها امتدادات في تشاد والنيجر وهم من دخل ليبيا أثناء أحداث تشاد وما بعدها واستقر بهم المقام في القطرون ومرزق وأم الأرانب وتمسة وحجارة القديمة في سبها.
المكون الثالث وهم قبائل الطوارق التي لها امتداد في النيجر والجزائر وموريتانيا وبوركينافاسو ومالي وقد استقر بهم المقام في أوباري وغات وحي الطيوري في سبها.
المكون الرابع هو المجموعات الزنجية الأخرى من مختلف الجنسيات من غرب أفريقيا والتي دخلت كعمالة عادية بطرق شرعية وغير شرعية وليس لهم أصول أو جذور في القبائل الليبية ولم يعودوا لأوطانهم الأصلية منذ عقود وفضلوا البقاء في فزان وانتشروا في مختلف الأحياء والورش يمارسون مختلف الأنشطة الفنية والعمالة اليدوية.
استنادا إلى ما سبق وتماشيا مع ما تم ذكره فإن هذه الجموع قد أصبحت منا ونحن منها شئنا أم أبينا فأكثرهم قد ولد وتوالد في ليبيا ويحمل مستندات وأوراق ثبوتية ليبية سواء بالتزوير أو بالتدبير وإن أبناءهم لا يعرفون وطنا لهم غير ليبيا وهذا أمر يفرضه الواقع وتفرضه الأعراف والقوانين الدولية والدوائر الاستعمارية والتي تعمل منذ زمن بعيد على تشجيع الهجرات إلى ليبيا والاستقرار فيها والسماح بعبور المتوسط لمن يصلح منهم للعمل في أوروبا وما إن اكتفت أوروبا من العمالة المهاجرة وثقل كاهل الدول المانحة بنفقاتها على دول القارة الأفريقية حتى خطط هؤلاء الأوروبيون وفي مقدمتهم فرنسا على جعل ليبيا موطنا لمن ضاقت بهم المعيشة في أوطانهم باعتبارها أرضا غنية بالنفط بما يكفي للإنفاق على سكانها وعلى أضعاف من يفد إليها ثم التضييق على أي محاولة يمكن أن تؤدي إلى قيام دولة ليبية ليجعلوا منها دولة فاشلة مهددة بالوقوع تحت الوصاية الدولية وجلب كل العاهات البشرية للاستقرار فيها باسم حقوق الإنسان والتهديد بتشديد العقوبات ما لم نبادر نحن بقبول الواقع وتقنين إقامة من وفد إلينا وسكن بلادنا بإرادتنا أو بدون إرادتنا وأصبح مواطنا بالتقادم أو بالأصالة ، ولابد من الاتفاق مع دول الجوار بمراقبة حدودها معنا والحد من تدفق المهاجرين عن طريقها والاكتفاء ولو مؤقتا بمن يتواجد على أرضنا إلى أن يتم بناء الدولة الليبية ثم تنظيم وتقنين مسألة الهجرة مثل بقية دول العالم.