- كتب / عبد الرحمن جماعة
تشرب شايًا أم قهوة؟ أضمن لك أنك حين تبادر ضيفك بهذا السؤال فإنه لن يطلب شيئاً آخر غير الشاي أو القهوة، وأن تفكيره سيظل محصوراً بينهما. وحين تقول لزوجتك: هل تريدين زيارة أهلك مرة في الشهر، أم مرة كل شهرين؟ فإن ذلك سيعفيك من الزيارات اليومية والأسبوعية. ذلك هو ما يُسمّى “التفكير الثنائي”، أو “التفكير في المُطلقات”، أو “black and white thinking”.. وتلك هي حالة العقل البشري التي لا يُمكنه الخروج منها إلا بحصر جميع الاحتمالات ودراستها واحداً واحداً. وتلك هي إحدى أبرز تقنيات وسائل الإعلام في تعبئة الجماهير وقيادة الجموع نحو هدف معلوم، ونزرها وتحويشها في طريقٍ مرسوم. العقل البشري لا يمكنه الخروج من هذه الحالة بسهولة، لأنه يفضل راحة الخيارين على تعب تعدد الاحتمالات وتنوع الخيارات، وحين يُترك على راحته هذه فإنه يبني أحكامه على منطق (إما … أو)، ولن يرى سوى الأبيض أو الأسود، الضد أو الْ مَعَ، الخير المطلق أو الشر المطلق، الصالح جملة وتفصيلاً أو الفاسد جملة وتفصيلاً!. العقل البشري لا يهوى التفكيك، ولا يحب التعامل مع الأجزاء، ولا يرغب في الأحكام المفصلة، ولا ينسجم مع الحيثيات والزوايا المتعددة، لأنه تعوّد النظر في اتجاه واحد، وإصدار حكم واحد وتعميمه على جميع الزوايا والحيثيات، ولأنه اعتاد النوم على جنب واحد. تلك الأحادية الناتجة عن التفكير الثنائي لو تفحصتها بعين الناقد، وراقبتها بمنظار التمحيص، فإنك ستجدها في جميع مجالات حياتنا اليومية!. ولكن.. كيف يقع العقل البشري ضحية هذا المأزق؟ إن العقل لا يمكنه أن يقوم بوظيفتين اثنتين في نفس الآن، وحين يتبنى أحد الرأيين فإنه سينشغل بحشد الأدلة وسَوْق البراهين لتدعيم ما تبناه، وإثبات ما ارتآه.. وذلك الانشغال هو ما يُلهيه ويُعميه عن بقية الاحتمالات. وتلك حيلة قديمة استخدمها فرعون منذ أمدٍ بعيد (فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)[الذاريات: 39]، فحصر أتباعه بين رأيين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن يكون موسى (عليه السلام) ساحراً، وإما أن يكون مجنوناً.. دون أن يتفطن الأتباع لتلك القولبة التي حصر الفرعونُ أذهانهم فيها!. استوقفني منشور لأحد الأصدقاء يطرح السؤال التالي: أيهما أفضل؛ ابن خلدون أم ابن تيمية؟ ورغم سذاجة السؤال، إلا أن كل الإجابات وبدون استثناء انحازت إلى أحد الطرفين، دون أن يتفطن أحد المعلقين إلى خداع السؤال وتضليله، وإلى أن المقارنة لا تصح أصلاً!. إلى هنا قد يبدو الحديث عن التفكير الثنائي ليس على قدر كبير من الأهمية، أو أنه لا علاقة له بقضايانا الراهنة.. لكن الأمر أخطر من ذلك بكثير إذا ما علمت أن إنسان العالم الثالث يعيش مأزقاً حقيقياً بسبب عدم حصوله، بل وعدم إدراكه للحدِّ الأدنى لهذه الإنسانية المسلوبة، كل ذلك لأنه مغيَّب خلف ذلك السؤال المضلل الذي يحصر ذهنه بين السيء والأسوأ فينغمس في جدال تلك المخايرة المحدودة والمحددة: أيهما أفضل؛ العهد القديم أم العهد الجديد، النظام السابق أم النظام اللاحق، الحاكم الأول أم الحاكم الثاني، امرأة أبيه الأولى أم الثانية.. فانشغل المواطن التعيس بالجدال عن أحد العهدين دون أن يدرك أن جميع أسفارهما لم تحترم ذاته، وانخرط في الدفاع عن أحد النظامين دون أن يعي أنه كان مجرد قطعة ملحقة بهما، وانحاز لأحد الحاكميْن، دون أن يعرف أن جميع الحكام الذين عرفهم لم يكن انحيازهم إلا إلى أنفسهم، وأفنى عمره في الثناء على إحدى امرأتي أبيه، مع أنهما لم يكونا يوماً بديلاً لحضن أمه!. إن الإنسان القابع بين ثنايا تاريخه، وفي أقبية ماضيه، وداخل أسوار قبيلته، لم يبلغ سن الرشد بعد، ليعرف أن له حقوقاً لا ينبغي أن تُنتقص، وأن هذه الحقوق ليست منَّة من أحد، وأن الحاكم ليس إلهاً؛يهب من يشاء ويحرم من يشاء، ويقتل من يشاء ويحيي من يشاء، وأن وظيفته كحاكم لا تُعفيه من المسؤولية، ولا تمنعه من المحاسبة، ولا تحصنه من العقاب.. تماماً كأي موظف في الدولة!. إن أي إنسان هتف بحياة أي حاكم، أو مَجّد أي حاكم، أو مدح أي حاكم، أو تغزل في أي حاكم، هو إنسان سفيه قد تنازل بمحض إرادته عن أهم جزء من إنسانيته، وعن أكبر قدر من كرامته، وعن الميزة الوحيدة التي تُميزه عن سائر العجماوات.. إلى درجة أن كلمة “إنسان” لم تعد تصلح لتُطلق عليه إلا على سبيل المجاز!. إن كلمة “إنسان” هي من الكلمات القلائل في اللغة التي تقبل تلك الثنائية في التفكير، فإما أن تكون إنساناً وإما أن لا تكون، وكل ما بين الإنسان واللا إنسان.. هو لا شيء، وكل ما دون الإنسان ولو بربع درجة.. هو لا إنسان. لذلك.. وقبل أن تُشغل نفسك بشيطنة الحاكم أو تأليهه، تذكر أن لك حقوقاً، وأن تمام أو نقص هذه الحقوق هو المعيار الحقيقي الذي يقاس عليه ويُوزن به ويُقيَّم ويُقوَّم على ضوئه أداء أي موظف في الدولة، من الحاكم.. إلى قاطع التذاكر في حافلة عمومية!.