إعداد : عبدالمنعم الجهيمي
كانت حرب البوسنة والهرسك من الحروب التي كان لها أثر كبير في العمل الصحفي التضامني، ففي وسط العاصمة المحاصرة على مدار شهور طويلة كان الصحفيون من مراسلي وكالات الأنباء والصحف الدولية والمحلية يواجهون ذات المصير، ويعيشون في نفس الظروف ويبحثون عن ذات الحقيقة.
نعود مجددا لاستذكار ما مر به الصحفيون في تلك الفترة عبر شهادات بعض من عاصروها وعاشوا تفاصيلها، لعلنا نخرج بدروس في عالمنا اليوم الذي تمر فيه الصحافة عموما بأصعب فتراتها.
يختلف الباحثون حول تاريخ اندلاع حرب البوسنة والهرسك، لكن الأكثر شيوعا هو السادس من أبريل عام 1992، يوم فرض زعماء صرب البوسنة حصارا خانقا ضد مدينة سراييفو وسكانها ذوي الأغلبية المسلمة، حصارا سيكون الأطول في تاريخ الحروب الحديثة.
الصحفيون البوسنيون في سراييفو كانوا يعملون في هيئة الإذاعة والتلفزيون البوسنية، ومع عدد من الصحف اليومية، من بينهم محرم عثمانوزيتش الذي كان أحد الصحفيين البوسنيين الذين غطوا حصار سراييفو منذ اليوم الأول.
يقول محرم “مع حلول شهر أبريل بدأتُ العمل كمصور لصالح قناة يوتا الإخبارية، كنا نغطي الأحداث لحظة بلحظة، وكنت ضمن الفريق الذي غطى المسيرة السلمية التي كانت أمام مبنى البرلمان”.
في الخامس من أبريل 1992 شهدت سراييفو مسيرة شعبية حاشدة للمطالبة باعتماد الاستفتاء الذي جاءت نتائجه بنعم لانفصال البوسنة والهرسك وكرواتيا عن جمهورية يوغسلافيا السابقة، استفتاء قاطعه صرب البوسنة ورفضوا نتائجه، في اليوم التالي وبينما كان المتظاهرون يحتشدون أمام البرلمان بدأ القناصة الصرب بإطلاق النار عليهم عشوائيا. يقول محرم ،يومها كانت المرة الأولى التي أتعرض فيها كصحفي لإطلاق نار معادٍ، كنتُ وسط الحشود أمام البرلمان عند جسر فربانيا الذي بات اسمه اليوم جسر السعادة، كنت هناك عند سقوط أول ضحيتين للحصار
. بعد ثلاثة أيام على اندلاع الحرب وفي التاسع من أبريل سيكون كاشف إسماعيلوفيتش أول صحفي بوسني يقتل على يد المليشيات الصربية، ومع تسارع الأحداث ووتيرة المعارك والحصار بين شهري أبريل ومايو، بدأ عشرات المراسلين والمصورين الأجانب في الوصول إلى سراييفو من بينهم مارتن بل وفريقه من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي. يقول مارتن “وصلنا ونحن على عجلة من أمرنا، وفي الواقع كنا متأخرين لأن الحرب كانت قد اندلعت بالفعل، انطلقنا من بلغراد وكانت أولى محطاتنا فندق بوسنة في منتجع ايليجه الذي كان تحت السيطرة الصربية، بقينا في الفندق إلى حين استهدافه في مايو 1992، ثم أخليناه برفقة كل الطواقم الصحفية.
انتقل عدد من المراسلين الأجانب للإقامة في شقق صغيرة وفنادق في وسط سراييفو، ولكن العدد الأكبر منهم فضّل الإقامة في فندق الهوليداي إن سابقا، والذي يقع عند جادة زمايا اود بوسني التي تحول اسمها خلال الحرب إلى جادة القناص، هنا قتل أكثر من 250 شخصا برصاص القناصة الصرب المتمركزين في المنطقة المقابلة.
يقول محرم ، خلال حوادث عدة استطعت التقاط مشاهد للحظة إصابة المدنيين برصاص القناصة، أذكر جيدا اليوم الذي أصيب فيه خمسة أطفال قنصا، يقول والحزن ظاهر في نبرة صوته إن هذه الأحداث في الواقع كانت ولاتزال ذكريات صعبة. الصحفيون أيضا تم استهدافهم عند جادة القناص، يعتبر الصحفي ديفيد كابلان مراسل إي بي سي نيوز الأمريكية، أول مراسل أجنبي يسقط قتيلا في حرب البوسنة، كان ذلك في الثالث عشر من أغسطس 1992.
إثر ذلك تداعى الصحفيون والمراسلون في هوليداي إن ، لاتخاذ خطوة غير مسبوقة في تاريخ العمل الصحفي الميداني.
يقول مارتن ، العمل الإخباري عموما والتلفزيوني خاصة هو في العادة تنافسي، خاصة بين وكالات الأنباء التي وقعت تحت ضغط هائل لنقل أكثر المشاهد دراماتيكية في الحرب ، لهذا كانت الطواقم تعرض نفسها لأخطار كبيرة، دعوتُ الجميع للنقاش وقلت لهم مايحدث هنا أمر جنوني، وسوف تقع وفيات غير ضرورية، ولأن الوضع كان خطيرا حصلنا على موافقة وكالات الأنباء على إنشاء وكالة سراييفو المشتركة.
وحتى نجبر وكالاتنا على الموافقة أضربنا عن العمل لساعات، حتى يصبح كل الفريق الصحفي الميداني الموجود في الفندق داخل سراييفو، زملاء في وكالة واحدة، وتكون هي المصدر الوحيد لكل وكالات الأنباء العالمية، بهذا الإجراء خففنا الخطر على كل الأطقم الصحفية الميدانية، وأنهينا مبدأ المنافسة، هنا كانت القيمة الأولى والأسما هي حياة وسلامة كل الصحفيين الميدانيين.
ولكن الاستهداف الأكبر للكوادر الصحفية جاء في الثامن والعشرين من يونيو 1995 حين قصفت المليشيات الصربية مبنى الإذاعة والتلفزيون، يقول محرم، آثار الشظايا لا تزال ظاهرة على المبنى حتى اليوم، كانت بسبب قصف التفلزيون الذي أصيب فيه زملائي بشكل بالغ، أدى القصف لمقتل أحد الحراس وإصابة 38 صحفيا بعضهم كانت إصابته بالغة جدا.
يقول الصحفي محرم، عشتُ في سراييفو طيلة أيام الحرب، كنتُ أتجول في شوارعها كل يوم تقريبا، قد كان واجبي كصحفي يحتم علي الخروج للشوارع بينما الناس في الملاجئ.
لقد شهدتُ الكثير من الأهوال عبر عدسة كاميرتي، وأعتقد أنه بفضلها مازلت إنسانا طبيعيا، كانت العدسة أشبه بستارة لي حمت عقلي من كل ماشاهدته من خلالها. لكل صحفي حكاية مع حرب البوسنة، ولكل حكاية فصول لاتنتهي من التضحيات والبطولات والصمود، هذه المدينة الرمز التي حفرت اسمها عميقا في قلوب ووجدان المئات من الصحفيين الذين مروا يوما من سراييفو، ولعل تجربة العمل الميداني الصحفي أثناء الحرب تكون درسا لنا جميعا، فهل نستطيع أن نغلب سمو مهنتنا على اعتبارات السبق الصحفي وانتماءات المؤسسات والأفراد؟!