الزردة

الزردة

سنيا مدوري

اتصلت بي والدتي منذ قليل لتعلمني بموعد “الزردة”  وقالت لي بالحرف الواحد “تمشيش ما تجيش راهو يتغشش عليك سيدي الطاهر

يااااااه… هنا تسقط كل السنوات التي درستها والشهائد العلمية أمام اعتقاد الوالدة.. في قريتنا حين تطلب من أحد أن يقسم يقول لك “والله العظيم” قد تشكك في صدقه ولكن حين يقول لك “ورأس سيدي الطاهر ” صدّقه دون حسابات..

أذكر حين كنا صغارا، نظل لسنة كاملة ننتظر موعد الزردة الذي يأتي  في آخر الصيف. وكل أحاديثنا تصبّ في نفس الموضوع، موضوع الزردة؛ فمثلا حين نجلس أمام الحوش مساء وتضع أمي براد الشاي على الكانون وتهم بتقشير الكاكوية(الفول السوداني) تتحلق حولها الدجاجات فتزجرهن قائلة” اش زرڨون، الماكلة وقلة البيض” فتهرب الدجاجات إلا الديك يظل يختطف من أمامها حبات الكاكوية فنستغرب منها ونسألها: “لِمَ لَمْ تزجريه مثل الدجاجات” فتقول “سردوك سيدي الطاهر، الشيء لله يا ولاي الله

كل أقارب أمي كانوا يأتون من عدة ولايات قبل الزردة بأيام وكانت أمي تشتري الحناء وتخضب كل الايادي والأرجل دون كلل ولا ملل وتظل ترفع سبابتها نحو فمها ليلة كاملة لتضيف بعض الريق الى الحناء لتصبح ملساء أكثر ثم تضعها في كفّ إحدانا.. أمي تضع لنا الحناء جميعنا ولا يبقى لها تصيب منها.. فتكتفي بذلك الإصبع الذي من كثرة ما زرع الحناء في أطرافنا، صار أحمرا فانيا..

 وفي صباح الزردة، تنهض أمي باكرا لتعد للضيوف فطور الصباح بما يحتويه من خبز ملاوي وزيت زيتون وبيض وقهوة حليب.. كنا نتحلق حولها وهي تعد الخبز ونأكل.. وكانت ايضا لا تأكل حتى يشبع الضيوف ونشبع نحن.. وتكون سعيدة وهي تفعل ذلك وفخورة

بعد الفطور تنادي أبي ليذبح الديك وهي تمسك به بكلتا يديها وتلاعبه كما لو أنه طفلها وكنت اسمعها تهمس له بكلمات غير مفهومة أظنها ترسل معه السلام الى الولي الصالح..

قبل منتصف النهار يكون الكسكسي جاهزا مشفوعا بسطل من التين الشوكي كان والدي قد جمعه و أحضره من جنان جدي.

وأخيرا يأتي المساء فنرتدي ملابسنا الجديدة ونتخاصم أمام المرآة الصغيرة المثبتة في جدار فناء الدار بالاسمنت كي نضع بعض المساحيق التي تجلبها قريباتنا.. ثم نتجه نحو الولي الصالح وما إن نصل الى الطريق الرئيسي حتى نجد زرافات وأفواجا من أهل القرية متجهين نحو الزردة..

يقع ضريح الولي الصالح فوق ربوة .. ولم أر حتى الآن ضريحا في مكان منخفض.. كنا نصعد نحوه مارين ببائعي الحلوى والألعاب والمواعين الرخيصة.. وكنا نجذب أمي من ثيابها كلما أردنا شراء شيء وكانت تقول “ماني وصيتكم من الدار، وقلتلكم ماعنديش كان فلوس الحلوى

كنا نغضب وتمتلئ عيوننا الصغيرة دموعا ولكننا سرعان ما نفرح برؤية الحصان وهو يرقص ويدور حول البطحاء الكبيرة حيث يتحلق الناس للفرجة.. واحيانا كنا نهرب خوفا منه ونختبئ وراء أمي..

ينتهي المساء ويسدل الليل ستاره وهكذا ينتهي يوم الزردة بكل خصوصيته ونعود محملين بالحلوى والفرح.. ونظل تتحدث عن ذلك اليوم سنة كاملة حتى يأتي موعد الزردة القادمة… لم يكن لدينا متنفسا في ريفنا البعيد سوى ذلك اليوم..

أما الآن ومع وجود كل اسباب الرفاهية إلا انني سأذهب الى الزردة  ليس ارضاء للولي الصالح كما تقول أمي ولكن ارضاء لأمي وبحثا عن الفرح الطفولي في ذلك المكان الذي يضجٌ بالذكريات… 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :