بقلم :: عبد الرحمن جماعة
منذ وقت بعيد وأنا أشعر بشيء ما تجاه هذه المقولة، وأحس أن ثمة خطأ ما بين طياتها.
ولم أتمكن من معرفة الخلل في هذا الشعار إلا حين قرنته بالمثل الليبي: “هبل وصايد عافيته” الذي يُعطي الإذن للأهبل بأن يكون ذا جسم جميل سليم.
وإذا عرفت السر في التعبير بالصيد عن الملكية فستدرك إمكانية امتلاك الأحمق والأبله والأهبل لكامل قوته، ذلك لأن الصيد هو أوضح سبل التملك، فالمملوك بالصيد تنتفي فيه شُبهة المشاركة والتنازع والتجزئة، فمن اصطاد شيئاً لا بد أن يحوزه كاملاً، خلافاً لمن اشتراه بالكيلو!
ولا يمكن لأحد ان ينازعه فيه، لأن البراري ليست مملوكة لأحد!
ليس هذا فحسب، بل إن الشاعر حسان بن ثابت يؤكد ذات المعنى بقوله:
لا بأسَ بالقومِ من طُولٍ ومِن عظمٍ…جسمُ البغالِ وأحْلامُ العَصافيرِ
ولكن.. دعونا من كل هذا..
فقد يكون المثل وبيت الشعر يتحدثان عن النادر والفرع، وليس عن الغالب والأصل، وعن الشذوذ والقلة، وليس عن القاعدة والكثرة.
وبما أن القاعدة العقلية تقول بأن الحكم للغالب؛ فإنه لا يجوز الاستشهاد بالاستثناء، ولا يصحُّ الاستدلال بالنادر.
ولكن.. تعالوا هنا!
أليس أغلب أهل العلم، والفلاسفة، والمفكرين، والأدباء هم أناس لا علاقة لهم بكمال الأجسام وتمامها، ولا شأن لهم بالرياضة والتمارين البدنية، بل إن هؤلاء هم أكثر الناس جلوساً، وأقلهم حركة، وأبعدهم عن المران والتمرين؟!
ثُم..
أليس أكثر الناس حركة، وأقواهم عضلات، وأكملهم أجساماً، وأشدهم بنية؛ هم العتالون، والعبيد، وعمال السخرة، والمحكوم عليهم بالسجن مع الأشغال الشاقة؟!
دعوني أخبركم بسر، ولكن لا تُخبروا به أحداً..
إن الدماغ مكون من مادة هلامية ليس فيها عضلة واحدة!
وإن العضلات مكونة من مواد لا علاقة لها بتلك المادة الهلامية.
ولكن..
ما هي العلاقة بين تلك الغدة الهلامية التي تحتل ثلاثة أرباع الجمجمة، وبين عضلات الجسم الستمائة وأربعين؟
إن العلاقة بينهما هي نفس العلاقة بين العبد وسيده، فلا يُمكنك أن تفترض أن نبل السيد ناتج عن نبل العبد.
ولا يُمكنك أن تحكم على سيرة السيد من خلال سيرة عبده.
إن الدماغ لا يتبع العضلات، لكن العضلات تتبع الدماغ.
كما أنالعبديتبع سيده، وليس العكس.
ولكن..
ماذا لو قلبنا المقولة وقلنا: “الجسم السليم هو نتاج للعقل السليم”؟
إن العقول السليمة على مر التاريخ لم تُنتج عضلات.
بل إنها أنتجت أفكاراً، وآراء، وابتكارات، واختراعات، وقواعد، وقوانين، وعلوم، وآداب… الخ.
يا هوووووه!
العضلات تنتج عن أي حركة سواء أكانت عقلانية أم غير عقلانية، وسواء أكانت وفق خطة مرسومة، وهدف موسوم أم كانت عشوائية.
العضلات هي نتاج حركة العضلات.. لا حركة سواها.
والعقل هو نتاج حركة العقل.. لا حركة سواه.
العضلات هي أشد ما تكون عند الأسد، وأقوى ما تكون عند النمر، وأكبر ما تكون عند الفيل والثور، وأسرع ما تكون عند الفهد، وأخف ما تكون عند الطير، وأرق ما تكون عند الغزال، وليس للإنسان من كل ما ذكرت الربع!
وعلى رأي المتنبي:
لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ … أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ
فهل يُمكن أن يُقاس عقل المرء بعضلاته؟
وإذا كان القياس صحيحاً.. فمن أين جاءت عضلات المجنون والأحمق والأبله… والضبع والذئب والثعلب والكلب..وبعض السياسيين.
فسلامة العقل لا علاقة لها بسلامة الجسد، وسلامة الجسد لا علاقة لها بسلامة العقل، فقد يكون أحكم الناس وأعقلهم وأعلمهم طريح الفراش.
وقد يكون أعتى الناس وأشدهم بنية، وأبسطهم جسماً، وأقواهم عضلات، لا يملك من العقل إلا كما يملك البعير من الماء المحمول على ظهره!
لكن.. دعوني أقول لكم كلمة أخيرة أختم بها قبل أن أتورط في كلام لا أريد أن أقوله.
العقل السليم لا يُكيَّل بالباذنجان..
لكنه يقدر بمقدار الحرية..
فكلما كان الإنسان أكثر حرية كان عقله أكبر حجماً وأكثر نضجاً، وأقرب إلى السلامة.
فالعقل السليم يُقدر بمقدار الحرية.. فقط لا غير!.