الرقابة على دستورية القوانين في الإطارين السياسي والقانوني

الرقابة على دستورية القوانين في الإطارين السياسي والقانوني

إن دراسة الرقابة على دستورية القوانين تُبين مدى أهمية تبنيها ؛ بل وخطورة تركها أو إهمالها ، والتجارب أكدت لنا أن استقرار الدولة واستمرارها مرتبطان ارتباطاً وثيقاً برقابة دستورية القوانين ، والرقابة الدستورية متحققة في جميع النظم القديمة منها والحديثة والمعاصرة ، الشمولية والغير شمولية ، الديكتاتورية والديمقراطية ؛ لأنها انعكاس 36لحرص من له السلطة على علوية وسمو مكانته ، وحرص السلطة مسألة مشروعة ، إلا أن الحريص يلزم أن يكون شرعياً أيضاً ، فمشروعية الحرص مستمدة من شرعية الحريص ، ويلزم لتحقق هذه الشرعية أن تكون معبرة تعبيراً حقيقياً عن إرادة صاحبها ( الشعب ) بصورة مباشرة وهذا الأمر بات مستحيلاً ، أو بصورة غير مباشرة وهو ما عليه الحال اليوم ، وهذا النمط من الحكم ( النيابي ) لا يعكس فكرة فقدان الشعب لسلطانه بحكم قدرته على منح وسحب الشرعية لمن يفوضه ، فهو مصدر الشرعية والمشروعية ، بل وتقييد ممثليه في الأُطر التي يراها مناسبة ، وقد أثبتت التجارب التاريخية حالة الحرص لكل من له سلطة حاكمة على احترام محكوميه لمخرجات إرادة سلطته الحاكمة ، ونستنبط من ذلك أن الحرص غريزة من غرائز السلطة بل لازم من لوازم بقائها ، فلكل سلطة نقيضها ، فالسلطة الظالمة نقيضها المظلومين ، أما العادلة فنقيضها الظَلَمَةُ ، وما غياب الحرص إلا لفقدان معطيات القوة للسلطة القائمة ، وقوة الباطل هي سر استمرار الظلم ، أما قوة الحق فهي سر استمرار العدل ، والحق دون قوة مهزوم ، وبهذا التصور الشامل لجميع النظم السياسية فإن الرقابة الدستورية هي انعكاس لحرص السلطة القائمة على احترام مخرجاتها من قبل المحكومين ، وعمومية هذا المفهوم ينفي ارتباط فكرة الرقابة الدستورية بالنظم السياسية الديمقراطية المعاصرة ، وما بروزها الآن إلا بسبب شيوع فكرة سلطة الشعب والتي اعتبرت ثمرة أحداث التاريخ السياسي المعاصر الكبيرة ممثلةً في الثورات الشعبية ضد مغتصبي السلطة ، وعلى إثر هذا التغير السياسي في طبيعة النظم السياسية من المنطقي أن تنتقل صفة الحرص للسلطة من سراقها ومغتصبيها والأوصياء عليها إلى أصحابها ( الشعب ) ، وبهذا يكون الحرص هو انعكاس لرقابة صاحب السلطة وان كان بطريق غير مباشر على من يعملون باسمه ولحسابه ، وإلى جانب كون الرقابة الدستورية هي انعكاس لحالة الحرص التي تعتري السلطة فإنها ضرورية حتى بعد انتقال السلطة إلى صاحبها (الشعب ) في ظل نظام ديمقراطي غير مباشر , لأن التجارب التاريخية أكدت تَحَقُقِ مخالفة المحكومين لإرادة حاكمهم وإن كان هذا الحاكم هو الشعب , و قد أخذت الرقابة الدستورية أو ما يمكن تسميتها ( برقابة السلطة على مخرجاتها ) طبيعتها الخاصة في ظل النظم الديمقراطية المعاصرة , و هذا ما انعكس علي مفهوم الرقابة الدستورية الحالي و الذي بات يعبر عن طبيعة المرحلة المعاصرة , و هذا المفهوم الحديث للرقابة الدستورية لا ينعكس علي كافة النظم السياسية المعاصرة اليوم , فهناك من الشعوب من لا تزال تفقد سلطانها بسبب : 1 / عملية الاغتصاب أ – الخارجي ( الاستعمار ) الذي بات يضمحل بصورته المباشرة ، ب – الداخلي ( الاستبداد ) والذي بات هو أيضاً ينحصر شيئا فشيئا ، 2 / انحدار الجانبين الثقافي والمعرفي واللذين باتا حاجزاً داخلياً يكتنف أفئدة بعض المجتمعات ويمنعها من استدراك وإدراك حقوقها . والرقابة الدستورية قائمة على ثلاثة مبررات أساسية أولها : تدرج السلطات والذي استلزم لتحققه توافر ثلاثة عناصر رئيسية تتمثل في 1 / سلطة عليا حاكمة ، 2 / سلطات دنيا محكومة ، 3 / تفويض تشريعي ، ثانيها : التدرج التشريعي ، ثالثها : السمو الدستوري والذي يعتبر نتاج للمبررين الأول والثاني ، فسمو الدستور هو نتاج لسمو السلطة في حقيقته ، فلولا سمو السلطة لما سمى الدستور والذي يعتبر أسمى مخرجات الإرادة الحاكمة ، كما أن سمو الدستور كونه تشريعا قانونيا في إطار النظم الحديثة هو نتاج للتدرج التشريعي ، فتحقق هذا التدرج قانونا أكد علوية وسمو الدستور على قمة هرم التشريعات القانونية ، وقد أجماع الفقهاء على عدم لزوم تأكيد فكرة سمو الدستور في صلب الوثيقة الدستورية ، فسمو الدستور متأةٍ من أ / علوية جهة إصداره ب / مضامينه التي تعتبر أسس قيام الدولة ، كما إن الوثائق الدستورية الليبية لم تتطرق إلى فكرة السمو صراحة إلا في وثيقة مشروع دستور 2008م والتي كانت ضمن حزمة الإصلاحات لبرنامج ليبيا الغد .

والعلاقة بين الرقابة الدستورية ومبدأ الفصل بين السلطات علاقة تكاملية ، والنظم الديمقراطية لقيامها لا تحتاج إلا لمبدأ الفصل بين السلطات ، وما الرقابة الدستورية إلا ضمانة لعدم إساءة استخدام السلطة ، فمبرر الفصل إنهاء الاستبداد الذي يتجسد في الاستئثار بسلطة القرار ، أما الرقابة الدستورية فمبررها إنهاء تعدي السلطة وليس استبدادها ، وقد تأكدت هذه الفرضية من خلال النظر في تزامن المبدأين في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ، فقد سبق تبني كلا البلدين لمبدأ الفصل بين السلطات على الرقابة الدستورية ، بل إن قيام نظمها الديمقراطية انحصر على مبدأ الفصل والذي يعد معيارا للتفرقة بين النظم الشمولية والغير شمولية وليس كما أشار البعض إلى أنه معيارا للتفرقة بين النظم الشمولية والديمقراطية ، إذ ليس بالضرورة أن تكون الشمولية انعكاس لحالة استبدادية ، فليس كل مستأثر بالسلطة يحمل النزعة الاستبدادية ، وهذا الرأي لا يعكس عدم مطالبتنا بفصل السلطة ؛ لأنه وان كانت الشمولية لا تعكس في غالبها نظاما دكتاتوريا إلا أنها أرضية خصبة للاستبداد ، فللسلطة نشوة تعبث بالرؤوس ، والحاكم الغير مقيد المالك للسلطات قد يقوده هواها لما يخالف الحق والفضيلة ، والشمولية في مثل هذه الظروف تعد مثار إغراءٍ ؛ تعين من امتلكه الهوى تقمص ثوب المستبدين ، كما أن مسألة تبني الفصل بين السلطات في الدول ليس بالضرورة أن يعكس حالة من الديمقراطية في أنظمتها ، فهناك من الدول من تبنت هذا المبدأ في إطار يخدم السلطات الاستبدادية القائمة بشكل يجعل منه ستارا على عيوب السلطات الحاكمة ، وقد رأينا هذه الصورة في الدول النامية عموما والعربية خصوصا ، ولعل هذه التجربة ستكون في رصيد ذاكرة شعوبنا ، تستفيد منها حال صياغتها لنظم المستقبل ، وان صح قيام النظام الديمقراطي دون تحقق مبدأ الرقابة الدستورية إلا أن الأمر غير جائز بالمخالفة ، فالرقابة لا يتصور قيامها في نظام شمولي لا يؤمن بمبدأ الفصل ، فالاستبداد لا يقبل التقييد .

علي ضوء الشريف

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :