- أ.د. محمد الطاهر الجراري ” رئيس مجلس إدارة المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية ”
الشرق، من الصين حتى شمال أفريقيا ، هو مهد الحضارة الإنسانية وبالذات منطقة الهلال الخصيب ، فمنذ الألف الخامس والرابع قبل الميلاد قامت عليه حضارات من بين أقدم الحضارات الإنسانية .
خلال كل هذه المراحل وحتى سنة 1948م راوح اليهود بين التيه والكيان وكنماذج فقط على طريق التيه الطويل الذي أنهى الوجود السياسي المستقل اليهودي ، نذكر بأنه في 722 قبل الميلاد وبعده البابليون الجدد والأخمنيون والبطالمة والسليوقيون وأخيراً الرومان في 135م التي دخل اليهود بعدها في مرحلة التيه التي وصفها القرآن بقوله: ( وقطعناهم في الأرض أمماً).
ورغم هذا التقطيع لليهود على سطح الكرة الأرضية وانتشارهم الواسع وتواجدهم في أغلب الحضارات العالمية ومنذ آلاف السنين إلا أنهم حافظوا على هويتهم المميزة لهم داخل كل أمه متمسكين بحكمتهم القائلة :”الحضارة اجتثاث للجذور ” CIVILIZATION is DERACINATION ” فعاشوا داخل كل حضارة وداخل كل مجتمع كجماعة مستقلة تزاول شعاراتها الأثينية والروحية داخل معابدهم وتجمعاتهم الخاصة مصرين على استقلاليتهم الروحية وحتى العرقية رافضين الذوبان في أي حضارة للحضارات التي يعيشون فيها معتمدين على العامل الاقتصادي للتأثير بدل الكيان السياسي .
وازدادت هذه الروابط مع وسائل التقنية الحديثة مما أحال العالم إلى قرية صغيرة يتحرك فيها اليهود تقنيا بكل حرية واستقلالية متمسكين بدينهم ونموذجهم المعيشي الخاص وسط عوالم يتعايش معها اليهودي اقتصاديا ويتغابى عن ماعداه.
عملا بقناعة أن الحضارة اجتثات للجذور .فهم جزء من أي واقع حضاري لكنهم مستقلون عنه روحيا وثقافيا.
في أثناء مرحلة النهم الأوروبي للسيطرة والمواد الخام وتكوين المستعمرات والثروات رأى فيه بعض اليهود فرصة اقتصادية سانحة لتكوين إطار سياسي يشبع غرورهم ويزيد من تراثهم ويعمق من أهمية حضورهم حينما كانوا وجه الأرض .
استمخ الغرب الأوروبي الرأسمالي الاستعماري الفكرة ورأى فيها هو الآخر فرصة لاصطياد عصفورين بل أكثر من عصفور بحجر واحد .
فأولاً يتخلصون من صرة مداخلات غامضة تعيش معهم ماديا وتتوارى عنهم روحيا.
عجزت في فك رموزها أو حتى التعايش المتناغم معها كل الحضارات الإنسانية السابقة بدءا من الأشوريين والبابليين والفرس والمصريين والإغريق والرومان.
والبيزنطيين وأغلب ممالك أوروبا المسيحية ودول أوروبا الحالية كلها، جميعها عادتها وتحاربت معها وفشلت في استيعابها أو إزالتها.
وفي نفس الوقت فإن دعم الوطن القومي لليهود يخدم ثأراً قديماً عجز الأوروبيون في رده وهو الإسلام ، الدين الذي أبهرهم بسرعة انتشاره وقوة إقناعه وأخذه لمناطق ظلت لقرون جزءاً من الحضارة الروحية المسيحية الأوروبية.
فدعموا مقترح الصهيونية العالمية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين يكون امتداداً للحضارة الغربية في قلب الوطن الإسلامي ويوصد عنهم باب التمدد الإسلامي ويفتح أمامهم أبوابا اقتصادية في منطقة ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة.
أيد الغرب الفكرة ودعمها حتى وإن عنت ازدواجية في المعايير أو تناقضاً مع قيم سعي الغرب للتمظهر بها غطاءً لأهدافه الحقيقية في مرحلة الانتقال من الإمبراطوريات الدينية إلى الدول القومية وضعت عدة معايير يقوم عليها كيان الدول الحديثة فكانت اللغة والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والانتماء الثقافي وضرورات الأمن المشترك والمصالح المتبادلة والآمال والآلام المشتركة هي ما تبنى عليه الدول.
كل هذه الثوابت يمكن القفز عليها تحقيقاً للفوائد التي ستنجم عن دعم الكيان الصهيوني الجديد.
فالدين الذي نسجت حوله الكثير من المحرمات والموانع تحول إلى عامل أساسي لتأسيس الدول والجغرافيا التي وضعت مقوماً للدولة واستعيض عنها بالتراث التاريخي القديم والتمييز العنصري الذي قاتلوه بشراسة عبر مشاريع تحرير العبيد وتجريم الرق، لا بأس أن تستثنى منه الدول اليهودية ، وحقوق الإنسان والديمقراطية تحولت فجأة إلى خصوصية يتمتع بها البعض دون الكل، والملكية التي قيل عنها مقدسة حصرت في البيوت والعمارات أما الأوطان فلا حقوق ملكية لها والمنطق الديكارتي والموضوعية العلمية والمنهجية اقتصرت حصانتها على مواضيع دون مواضيع ، فالمحرقة (اليهودية) في أوروبا لا يجوز فتحها أو نقاشها ولا تطبيق معايير الموضوعية العلمية عليها لأنها تدخل في إطار المسلمات والأخذ بلا كيف.
في مؤتمر للمستفيدين من المساعدات الألمانية DAD في نهايات القرن العشرين دعي مركز الجهاد الذي وعدت ألمانيا بمساعدته في دراسة حول طرق القوافل القديمة في ليبيا بعد الانتهاء حضر الجلسة الختامية وكيل وزارة الخارجية الألمانية ، وبعد كلمته التي مدح فيها الحضارة الغربية وحرية التفكير فيها طلب كثير من الحاضرين التحدث
ومنهم العبدلله وقفت معلناً حيرتي وحيرة أمثالي من الذين تعلموا في الغرب الأوروبي أو الأمريكي عن موضوع حرية النقاش والموضوعية والمنهجية التي تقيدنا بها في سنوات عملنا الأكاديمي بالجامعات .
وبعد عودتنا لبلداننا حوصرنا بالفجوات الكثيرة والخروقات الفاضحة التي ترتكب ضد الموضوعية والمنهجية الأكاديمية وبالتالي الديمقراطية وأشرت إلى أننا في دفاعنا اتهمنا بالكثير من التهم وأهمها الغسيل الفكري الذي جعلنا نردد ما يقول الغرب رغم كل التناقضات في ممارستهم . ودللت على ذلك بالقرار الصادر في تلك الفترة والذي يمنع بل ويحرم النقاش حول موضوع المحرقة وكيف أنها يجب قبولها بلا كيف، وفي هذا القرار مافيه من مجافاة للديمقراطية وحرية الرأي والموضوعية والعلمية الأكاديمية .
وكان الرد من وكيل وزارة الخارجية أن بعض المواضيع حسمت ولا يجب فتح نقاش فيها وكان 1948م بعد أكثر من ألفي سنة على انتهائها على يد الرومان 135م .
قد لا تكون الوحدة العرقية من مكونات الدولة، ولكنها قد تفيد إذا وجدت إضافة إلى العناصر الأساسية الأخرى وهي الدين واللغة والعادات والتقاليد والتاريخ والجغرافيا والانتماء الثقافي وضروريات الأمن المشترك والمصالح المتبادلة والآمال المشتركة.
هذه جميعها تجمع عليها الأمة وتتناقش فيها.
وبعد نقاشات طويلة وجدالات عميقة بين حكمائها تضع الأمة استراتيجيتها المستقبلية وتلخصها في مبادئ عامة لا تسمح بتغييرها أو الخروج عنها والتزام الجميع بتنفيذها فرداً كان أو جماعة.
ففي فرنسا مثلا وضعت ثلاثة مبادئ هي الحرية والعدل والمساواة، هذه الأهداف الثلاثة الملخصة لكينونة الدولة الفرنسية لا تسمح بالخروج عليها وكل حكومة أو حزب عليه العمل بمقتضاها والالتزام بها ، هذه الثوابت التي قامت عليها الثورة والدولة الفرنسية مفهومة رغم عموميتها ومقبولة رغم صعوبة تنفيذها لأنها مبادئ إنسانية وأخلاقية راقية لا أحد يعترض عليها ولا أحد يتأذى منها متى أحسن وصدق تنفيذها.
الغريب أن الدولة تضع ثوابتها بطريقة مستقرة وغير منطقية ولا عقلانية ولا قانونية ولا حتى أخلاقية والأغرب أن تجد أقواماً ودولا تصفق لها وتؤيد وتدعم هذه المبادئ القائمة على قيم تتناقض مع قيمها ومبادئها التي ترفعها كثوابت لها وخير نموذج لذلك الدول الصهيونية العالمية القائمة على ثلاتة ثوابت هي الوطن القومي لليهود والهجرة والتفوق العسكري .
هذه الثوابت على ما فيها من استهانة بعقول البشر والمنطق لكنها مقبولة رغم أن كل أو أحد الثوابت تهدم ركناً من أركان الفكر الإنساني وأولها إلغاء الجغرافيا من مكونات الدول كالقول بأن فلسطين هي الوطن القومي لليهود على أي أساس بنيت هذه الفريضة الظالمة؟ المعروف في القانون المدني الإنساني أن الملكية تسقط بالتقادم فما بالك بوطن وأرض تركها سكانها وهاجروا منها منذ أكثر من ألفي سنة، وبقي فيها شعب كان فيها أصلاً واستمر حتى الآن.
القانون الأمريكي وكل القوانين الأوروبية تعطيك حق المواطنة أي الجنسية بعد ثلاثين سنة تزيد أو تنقص فكيف من ظل على أرضه لآلاف السنين.
القول بأن فلسطين وطن قومي لليهود والتصديق بهذا القول والمطالبة من الجميع بالقبول بهذا القول، فيه الكثير بل كل نواقض التاريخ وعلمه وشروطه وفيه الكثير بل فيه كل التجاوز للقوانين والأعراف القانونية الدولية والأهم منه تسفيه العقل الإنساني وتصغيره بل وتحقيره، وقلب للحقائق الوجودية كلها التي درج عليها الإنسان منذ مئات السنين، واستقرت عليها ظروف الحياة والبشرية وفيها أيضاً قلب للمنطق وأساسيات التعايش الإنساني.
ولا أعرف كيف يتقبل العقل الأمريكي والأوروبي، وأغباها وأقبحها العقل العربي هذه السخرية والمهزلة إضافة إلى دفاعه عنها ومساعدة القائلين بها على خرق القوانين والأعراف الخاصة بالملكية وغض النظر عن الظلم الواقع على الملاك وأصحاب الحق الحقيقيين ونعتهم بكل النعوت الظالمة من مجرمين ومخربين وإرهابيين لأنهم فقط يدافعون عن حقهم الذي كفلته لهم الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.
ولزيادة الاستغباء والاستهزاء بالمنطق والعقل والقوانين واللوائح ترفع الدولة الصهيونية شعارها الثاني وهو حق الهجرة بمعنى أن كل من يدين بدين اليهود وسكن الكرة الأرضية من قبل نزول المسيحية إضافة لكل دول الإغريق وكل امتدادات الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية وبعد كل الدول الدينية والقومية الأوروبية، هؤلاء جميعاً لهم الحق في الهجرة إلى فلسطين والحصول على حق الإقامة والجنسية والمواطنة والتملك ، على حساب اقتلاع جذور أقوام استمر تواجدهم بفلسطين طوال كل تلك العهود.
بأي عماء أو خرف للعقل الإنساني والمنطق الوجودي برر العقل الأوروبي والأمريكي هذا النوع من التهشيم المفني والمضيع لكل أساسيات التفكير الإنساني وما توافقوا عليه من قوانين ونظم وتفاهمات بنيت عليها كل القوانين والأعراف في العلاقات الدولية الإنسانية.
وأتجاوز كل هذه المحاذير للقول بأن هذه القاعدة المستقبحة ستجعل من الدول الصهيونية العالمية مأوى للملايين من شداد الآفاق ومن المغامرين والمتسكعين وقليلي الحظ في أوطانهم والمتسولين الانتهازيين لاغتنام الفرص تحت قناع الديانة اليهودية واللجوء إلى فلسطين حيث المسكن والملبس والمأكل والفرص المعيشية الأفضل في الحياة ، وذلك كله على حساب السكان الأصليين ، وزيادة في الاستعلاء أو الاستقباح وإلزام الجيران بالاستجابة لمطالب التوسع لإشباع نهم المواطنين الصهاينة الجدد والمتزايدين كل سنة بل كل يوم ، ابتكرت العقلية الصهيونية العتيدة حق التعدي على الآخرين من الجيران والاستقطاع من أراضيهم فأرضه سابقة قانونية أخرى.
تقول بأن دولة إسرائيل هي دولة بلا حدود ما يعني امتدادها الجغرافي على حساب جيرانها كلما لزم الأمر ومن يعترض سينال عقابه على يد الجيش الذي لايقهر ولا يعجز في توفير الأعداد التي يحتاجها لأن العالم كله جنود لإسرائيل القادرة على تجنيد كل من يعتنق الدين اليهودي مايعني الملايين على مستوى العالم.
وإذا كانت منظمة البلاك ووتر الأمريكية والفاقنار الروسية تغري الطامعين مادياً فإسرائيل تغري الطامعين بالأوطان وبالمال وتهدد الجيران بجيش لايفنى وسلاح لايخطئ.
أما الأساس الثالث للدولة الصهيونية فهو التفوق العسكري أي فرض كل هذه المخالفات المناقضة للقوانين والعقل، فرضها بالقوة الغاشمة ، شاء من شاء وأبى من أبى.
هذه الحزمة العجيبة من القيم الفاسدة والمبادئ المظلمة والثوابت الكاذبة التي بنيت عليها دولة الكيان الصهيوني والتي تجد الدعم من العقل والفكر الأوروبي الذي يدعي المنطقية والتفكير السليم والعقلي والدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التفكير والديمقراطية.
وأختم بالقول بأن البنية العقلية لنا أو على الأقل لبعضنا قد تشربت النموذجية الغربية وبالغت فيها، فعندما نتناقش في موضوع الخروقات العقلية الأوروبية الواضحة في بنية إسرائيل الأخلاقية والعقلية يرفع البعض أصواتهم بتجهيل المناقش وعماء بصيرته عن إسرائيل التي صارت حقيقة واقعة لا يستطيع ناكر أن ينكرها.
هذا الكلام صحيح على المستوى الجدلي الناقص لكن أركان الحقائق ترفض هذه الواقعية لأن الحقيقة يجب أن تقوم على ثلاثة أركان هي التطابق والاتفاق مع الواقع والزمن والعقل.
بالنسبة لإسرائيل هناك واقع لاينكر لكنه لايزال مترجرجا وهناك زمن لكنه في عمر الأمم لا يعد كافياً فالإمارات الصليبية عاشت أكثر من مائة سنة في الشرق تم آلت إلى زوال.
فلا يمكن لعقل سليم أن يسكت على هذه الخروقات الباغية شرعاً وقانوناً.