هذا هو العَدْلُ الذي به قامتْ السَّماواتُ والأرضُ، وبه أَمَر رَبُّ العزَّةِ جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء 135).
هذا الإِنْصافُ يقولُ فيه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيما أخرجَه مُسْلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا».
وهذا هو العَدْلُ الذي يُحَلِّقُ بصاحِبِه في آفاقِ الجِنانِ بإذنِ الله، فقد أخرج البَيْهَقِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ».
حين يَعْدِلُ القاضي، وحين تكونُ هَيْئَةُ المحكمةِ التي تَنْظرُ القضيةَ هيئةً عادلةً؛ لا يَيْأَسُ الضَّعيفُ من الوُصولِ إلى حقِّه، ولا يطْمَعُ المتسلِّطُ أو الماكرُ المخادعُ في سلْبِ حقوقِ الناس، ولهذا كانتْ نزاهةُ هيئةِ العدالةِ والقضاءِ أهمَّ عند كُلِّ العقلاءِ في أَنْحاءِ الدُّنْيَا من نَزَاهَةِ هيئةِ التَّشْريعِ أو التَّنْفيذ، وكان حِرْصُ أُممِ الدنيا على توفير كُلِّ الضَّماناتِ للقُضَاةِ؛ ليحكُمُوا بالحقِّ دُونَ أنْ يَخْشَوْا في اللهِ لَوْمَةَ لائِم، ودونَ أنْ يُضطَرُّوا للرُّضوخِ لأيِّ ضغطٍ منْ ذِي قوةٍ أو سلطانٍ أيًّا كانَ. وهذا ما جعلَ الأممَ الحُرَّةَ تنصُّ في دساتيرِها على اعتبارِ القضاءِ سلطةً مستقِلَّةً مع سُلطَتْي التشريعِ والتَّنْفيذ.
وهذا هو الضمانُ الحقيقيُّ لاستمرارِ الدَّوْلةِ وبقاءِ الأُمةِ، وكان سلفُنا الصالحُ يقولون: «إنَّ اللهَ يَنْصُرُ الدولةَ العادِلةَ وإنْ كانتْ كافرةً، ولا يَنْصُرُ الدولةَ الظالمةَ وإن كانتْ مُسْلِمةً». لا بُدَّ من الإنصافِ من النَّفْسِ، وعدمِ المجاملةِ عندما تتعرَّضُ أيُّها القاضي للحُكمِ أو الفصلِ في قضيةٍ أنتَ أوْ حبيبٌ لك طَرَفٌ فيها؛ لأنَّ اللهَ أعزُّ من الناسِ جميعًا، ولأنَّ الحقَّ أحقُّ أن يُتّبَع، وهذا ما كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يفعلُه، لا يُجامِلُ في الحقِّ قريبًا ولا يَمْنَعُ منه بعيدًا، ولا يقبلُ فيه ضغوطًا من أحدٍ كائنًا منْ كان، أخرج الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ حِبُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!». ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا».
نَعَمْ، فحياةُ الأُممِ وبقاؤُها ونماؤُها مرهونٌ باستقرارِ العدالةِ فيها، والقضيَّةُ ليست ادعاءً، إنما القضيَّةُ أن يتعوَّدَ القلبُ ألَّا يخافَ إلا اللهَ، وألَّا يَرْجُوَ إلا الله، وأن يتذكَّرَ القاضي في كلِّ موقفٍ يتَّخِذُه أنه سيقِفُ بين يَدَي الله، وسيُسْألُ عن كلِّ القضايا التي حَكَمَ فيها، وسيُقالُ له إنْ هو جادَلَ عن الباطلِ أو جامَلَ بغيرِ حق: ﴿هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ (النساء 109).
القَضَاءُ لا بُدَّ أنْ يكونَ عن علمٍ وبَيِّنَة بعيدًا عن الهوَى الشخصي.