قراءة في ديوان «شوق المسافر»
- د. أحمد فرحات
ترتكز د. زينب أبو سنه على إرث ثقافي ومعرفي كبير، تتجلى مملكتها الفنية الرحبة، والمتنوعة في الشعر والرواية؛ فإذا ولجت مملكة الرواية نقلت القارئ إلى عالم السحر والجمال والتاريخ، وغاصت بك في الأسطورة والخرافة وأسقطت عليك أحداثا لواقعك المعيش من غير ملل أو ضجر. وإذا ولجت مملكة الشعر أضفت على روحك حياة الحب والتسبيح والإمتاع. هذان الجنسان الأدبيان اللذان قرأتهما بوعي للتعرف على عالمها شديد الخصوصية والخصوبة.
لا تكتب د. أبو سنة الشعر إلا محبة في الشعر نفسه، ولأنه ينسجم مع رؤاها الفنية الحالمة، ويتفق مع طبيعتها الإنسانية المتجذرة في أعماقها النفسية. وحتى نلج عالمها الشعري نقف على عنوان لافت «شوق المسافر» والمسافر المشار إليه في العنوان هو الإنسان نفسه، الذي يعدّ نفسه كل لحظة للتأهب للرحلة، معروفة الاتجاه، ومحددة الوجهة، وغير معلومة المغامرة، رحلة تشبه إلى حد ما رحلة الطائرة، فالراكب يصعد طائرته، ويدرك مسبقا أنه بعد عدد من الساعات المحددة سيهبط المكان المحدد، بيد أنه لا يعرف الطريق، ومشاقاته، ومطبات الهواء، ودرجة الأمان، فللرحلة مخاطرها، لكن لا بد منها حتى يصل. والمسافر الذي يتأهب للسفر الطويل في عنوان الديوان هو ذلك المسافر الذي يستعد للقاء الخالق الأول له، ولا بد له من المرور بمخاطر معروفة مسبقا، لكنه مجهولة النتائج والعواقب. والشوق هنا شوق ذو طبيعة خاصة، لأنه شوق الإنسان إلى خالق الكون وموجده من عدم، وفيه تتجلى نزعات الروح إلى اللقاء المرتقب علها تظفر بخلود سرمدي.
ومن مظاهر هذا الشوق للمسافر شعر المديح النبوي، حيث تتجلى روح المسافر في غنائية محببة لخير من مشى على قدم، وفيها تظهر الشاعرة نزعات الضعف الإنساني، والتماس وشائج القربى بالحبيب المصطفى لعلها تنال شفاعة منه عند رب الكون وخالقه. فتقول:
أنا زينبُ الصغرى سميةُ جدتي
بنتُ البتولِ كريمةُ الآبــاءِ
وأبي علىٌّ بابُ علمِ المصطفى
الفارسُ المِغوارُ في الهيجاءِ
وسليلةُ الحسنين سبطي أحمدٍ
وهما الحليمُ وسيدُ الشهداءِ
جدّي رسولُ اللهِ وهو حبيبُه
طه النذير وأعظم البشراءِ
هنا تعلن المسافرة أنها من نسل أحمد، واسمها زينب، سمية جدتها، بنت البتول، كريمة الأصل والفرع، ذرية بعضها من بعض، وهذه السيرة الذاتية المشرفة تلتمس من خلالها شفاعة مأمولة، فهي مقدمة فخرية أعلى من أي شهادة دنيوية، الفخر بالأصل والنسب المحتد، لكنها في الوقت نفسه ضرب من التضرع وطلب الشفاعة والوسيلة في رحلة عجيبة.
تجيد أبو سنة الخروج من المقدمة إلى الغرض الرئيس في النص الطويل، فتجد الفرصة سانحة لتبدأ مدائحها في الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فهو أهدى إلى الأكوان كل ضياء، يقف الزمان لذكره بثناء، له في العصور ديمومة الإبقاء، ومنحة المِعطاء، عم الكون ضياؤه، وتستمر في مداحها أكثر من سبعين بيتا، محبة وشغفا، وغراما برسول الإنسانية كلها.
وهي بصدد المديح النبوي تنتهج طريقة طريفة لتجسيد المديح وتقريبه إلى المتلقي في نغم متناسق، تثب الكلمات فيه إلى أذن المتلقي بخفة ورشاقة وسهولة فتلتصق بذهنه بيسر، حيث تنتقي مفرداتها من معجم اللغة السهل الممتنع، فلا غرابة فيه، بل يجري المديح على لسانها سهلا ميسورا، وكأنها تمتح من عمق بئر عذبة مياهها، رائق مشربها، مما يجعله ميسور الحفظ والإلقاء للصغار والكبار في آن معا، وأوصي القائمين على مناهج التعليم المصري، بل العربي بالنظر إلى ذلك الضرب من الشعر وافر القيمة، سهل المأخذ، عميق الدلالة. فهو يصلح مادة للمواد التعليمية في المدارس والجامعات، تأمل معي قولها:
يا أيها الطودُ العظيمُ تفردًا
يا مطلع الإشراقِ في الأنحاءِ
يا نور نور النور أنت ضياؤنا
يا مهبط الأنوار في الإنشاءِ
طابت بك الأخلاقُ أنت تمامها
سوَّاك ربُّك طيِّب السّيماءِ
وفي كل بيت معنى مستقل ينحو نحو القصة القصيرة جدا، فهو بناء محكم من لدن فكر عميق لصنع معجزة لغوية مغلقة الإحكام، ففي قولها:
فاسمح/لقلبي/يا حبيب../بجذبة../وبدعوة للروضة/ الغناء.
فهذا البناء القصصي المحكم يتبدى فيه الخطاب بين الذات الشاعرة، والمحبوب، كشخصيتين متخاورتين، تأمل فيه الأنثى الأكثر ضعفا، أن يسمح لها الحبيب بجذبة، والجذبة هنا فيها تورية، لها معنيان، أحدهما ظاهر والآخر خفي، مقصود، فالجذبة أي الشدة والقرب، والجذبة أيضا من فعل المجاذيب الدراويش الهائمين في ملكوت ربهم، يبتغون فضلا من الله ومحبة. ويأتي تحديد المكان بقدسيته وعظمته (الروضة) ليميل إليه القلوب والعشاق. ففي كل بيت من أبيات البردة الزينبية تتجلى ملامح القصة القصيرة جدا.
وفي البردة الزينبية تتجلى ملامح الضعف والوهن الأنثوي أمام مهابة الموقف، وجلال الحدث، وعظمة الممدوح، فتبتهل إليه بخشوع طالبة منه الفضل والمنة:
فاذكرْ بفضلك يا كريمُ بُنيّة
جاءت إليكَ وخُصها بنداءِ
وابسط يديك بماء حوضك واسقني
ماءَ التُّقى يَنسابُ في أعضائي
وتتبدى مظاهر الضعف الأنثوي البادي على سطح الرقعة الشعرية في تصغير كلمة (بنية) بما تحمله من وهن وضآلة أمام جلال المشهد، وفي جملة (جاءت إليك) إعلان بانتهاء رحلة المسافر، وأن الوصول إلى الممدوح صلى الله عليه وسلم غاية كبرى، ونهاية للسعي المرجو، وهي جملة فيها إذعان وخضوع وذل وانكسار. فقد ضاق بها مطلبها من بني الإنسان فحلقت في السماء، تطلب السند والعون، وقت لا ينفع فيه مال ولا بنون.
وهي في غمرة انتشائها بالرحلة، لم تنس الهم العام وقضايا أمتها، فلاذت إلى قوى عليا تستمد منها العون والمدد، فتذكرت شكاتها من أمة تناست رحلة المسافر، وظنت أنها لن تحاسب، وحسبت أن مالها يخلدها، فراحت تجأر بالشكوى في ضعف وانكسار لما آل إليه حال الأمة وبني البشر جميعا، ودعت إلى نبذ التطرف والإرهاب من لدن جماعة من بني البشر، شغلتهم الدنيا وتصالحوا مع شيطانيهم، ودأبوا على تدمير الإنسانية.. فقالت:
ما أحوجَ الإنسانَ للهَدِي الذي
أرستْ يداك بحكمةِ الحُصفاءِ
عِلمًا وإحسانًا وعدلًا جئتنا
فطغَت شعوبٌ واعتلت بدماءِ
واسْتُعبد الأحرارُ من إخوانهم
وتنابذ الأقــــوامُ باستقـــــــواءِ
واستُعضفت أممٌ وسادت عصبةٌ
بالمالِ والتضليلِ والإغـــواءِ
تستمد بردة أبي سنة جمالها وفتنتها من كونها قصيدة طويلة، تجاوزت الثمانين بيتًا، لم تكرر الشاعرة القافية مرتين، وهذا يدل على طول نفس الشاعرة، ومداومة اطلاعها وتمرسها على كتابة القصائد الطوال، بجودة وإتقان. وهي كنز معرفي ومعرض لمعلومات ومعارف في السيرة العطرة كجنوحها إلى بطون الكتب التراثية في أبيات قليلة لتعدد أسماء وأحداثا مرت في سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- كذات الفضول (اسم درع النبي)، والدلدل (اسم بغلة النبي)، والحتف، واليعسوب، والقصواء، الرسوب، القضيب، المخدل، واليعفور، والعضباء، والسكب، والمأثور، والروخاء،… وهي أمتعة الرسول الكريم وسلاحه وركابه(1).

___________________
(1) جاء في كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد طبعة المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 200م. وكانت دروعه سبعا: السعدية/ فضة/ ذات الفضول/ ذات الوشاح/ ذات الحواشي/ البتراء/ الخرنق. ومن أسماء خيله صلى الله عليه وسلم: السكب/المرتجز/اللحيف/الورد/سبحة/الظرب/الملزز. قال الشيخ الحافظ أبو محمد الدمياطي -رحمه الله- فهذه سبعة متفق عليها. وقيل كانت له أفراس أخر غيرها: وهي: الأبلق: حمل عليه بعض أصحابه، وذو العُقال، وذو اللَّمة، والمرتجل، والمرواح، والسَّرحان، واليعسوب، واليعبوب والبحر –وهو كميت- والأدهم والشحَّا، والسَّجل، وملاوح، والطرف، والنحيب، هذه خمسة عشر مختلف فيها. وذكر السهيلي في خيله – صلى الله عليه وسلم: الضْريس، وذكر ابن عساكر فيها: مندوبًا. انظر عيون الأثر (2/420-421).
وفي شوق المسافر هناك تأكيدات عبر منمنمات شعرية متعددة، تؤكد على المعاني التي وردت في البردة الزينبية منها مثلا: “الاعتداد بالذات” و”عراقة النسب وأصالته”و”الحكمة” و”الشكوى” فتقول:
النبلُ والصدقُ والإخلاصُ من شيمي
والفن والشعرُ والإلهامُ مِن كَلِمي
يا حزنَ قلبي .. وقد أضنته لوعتُه
مِن كُلِّ مَن يُبتلى بالزيف والنقَمِ
لا تشترِ الودَّ بالمعسول مِنْ كلمٍ
لا يعرف الوُدَّ. إلَّا صاحبُ القيمِ
ولم تغفل الشاعرة صورة محبوبها، فهو يجب أن يكون مثلها عراقة وأصلا وجرأة وبراءة أميرا؛ وهي صفات تتماس مع طبيعة أبي سنة القارة في وجدانها، فتقول:
هبْ لي بربِّك من غَرامِك نفحةً
لأصوغَ فيك مِنَ القصيدِ هديرا
واسكبْ نبيذَ الحُبِّ فوقَ براءَتي
فأنا أحبكَ في الغرام جسورا
لكنها تبدو ضعيفة القوى، هاشة البينان، بسبب نافلة الشوق والهوى، ولم تعد تساعدها الدموع، فلم يبق منها شيء…
فما عادتْ تؤازرني دموعـي
وما شيءٌ تبقى فيَّ منّي
وسيبقى شوق المسافر حرا طيفا هائما لا ينتهي، هو ديمومة العشق الأزلي، ونداء الروح يهفو إلى الحب والبراءة…
شوقُ المُسافرِ دائمًا لا يَنتهي
يَهفو إليكَ فيا حبيبًا .. ضُمني
يبقى أن أشير إلى طرافة المنزع الزينبي في تناولها لشعر المديح النبوي، فهو شعر يجمع بين أمرين: شعر أنثوي كتب في مرحلة شديدة الخصوصية للشاعرة، وهو أيضا شعر فيه نزعات تجديدية لبعض الصور والتراكيب، فهي لم تهبط إلى مستوى السطو أو التأثر بمن سبق، بل حاولت التنوع والتجديد فأضافت صورا جديدة، أستطيع أن أصفها بالبصمة الزينبية الخالصة. كقولها:
فالكلُّ نقصٌ لا سواكَ مكمَّلٌ
وبك اكتمالُ نواقص الأحياءِ
والكونُ يسبح في فضائك هانئا
مُتقلبــــًا ببكــــارةِ الأضـواءِ
فتعبير “بكارة الأضواء” حسب علمي لم يسبقها إليه أحدٌ، فهو تعبير طريف، من صُنع الشاعرة، ولم يخلُ شعرها من مثل هذه الطرائف “ودبيب شوقي يصطلي بدمائي”، “ديمومة الإبقاء”، “من بدء إشراقي ليوم رثائي“.