- فسانيا / شعبان يونس التايب
ادبداب في زوارة والطبيلة في طرابلس و النفـّار في مدن المغرب والمسحراتي في المشرق كلها أسماء لمهنة رمضانية واحدة ارتبطت في الذاكرة الشعبية بهالة من القداسة والاحترام كان صاحبها يجوب الشوارع والأزقة والحواري ضارباً على طبلِه أو عازفاً على مزماره مردداً ابتهالات تنساب في سكون الليل إلى البيوت للتنبيه بموعد السحور وقرب صلاة الفجر ، وظل هذا المخلوق الغامض الأقرب إلى شخصية من شخصيات قصص الخيال يصارع الزمن متحدياً له إلى أن وجد نفسه في منافسة غير متكافئة مع وسائل التنبيه الحديثة ، وأمام زحف التكنولوجيا بدا يتوارى شيئا فشيئا إلى أن اختفى ولم يعد له وجود سوى في بعض المدن القديمة ، وباختفائه اختفت أقدم مهنة ارتبطت بهذا الشهر الفضيل .
تعود الجذور التاريخية لهذه العادة إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث «كان بلال بن رباح رضي الله عنه أول مسحراتي في التاريخ الإسلامي كان يجوب الشوارع والطرقات لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب طوال الليل وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم » يقول «إن بلالا ينادي باليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم هو الذي يتولى أذان الفجر، ومنذ ذلك التاريخ أصبح المسحراتي مهنة رمضانية خالصة ، وقد اشتهر من أرباب هذه المهنة الزمزني في مكة الذي كان يصعد إلى المئذنة ومن فوقها ينادي معلنا بدء السحور، وفي كل مرة يكرر فيها النداء كان يدلي بقنديلين كبيرين معلقين في طرفي حبل يمسكه في يده حتى يشاهدهما من لا يسمع النداء. وتختلف عادات وطريقة المسحراتي من بلد إلى آخر وقد أورد ابن الحاج في كتابه (المدخل) أن أهل اليمن كانوا يتسحرون بدق الأبواب بأيديهم والاكتفاء بالتنبيه على حلول موعد السحور، بينما يتسحر أهل الشام بالضرب على الطبل أو بضرب النقير خمس أو سبع مرات ويتشابه أهل المغرب مع أهل الشام في هذا التقليد .
يكو كوزين باي افندم يكون من البركات المهندس بشير الفلاح باحث في التراث الشعبي من سكان المدينة القديمة طرابلس يقول عن الطبيلة إنها عادة رمضانية طرابلسية كان يمارسها مجموعة من الرجال يقسمون الحواري فيما بينهم بحيث يلتزم كل شخص بمنطقته وآخر من مارسها في المدينة القديمة هم أبوبكر حميد وشخصان لا أتذكر أسماءهما بالكامل أحدهم كان قيّم مسجد اسمه أبوعجيلة وآخر اسمه جميل كان معروفا بين سكان المدينة القديمة بارتداء الملابس النسائية والعمل في غسيل الملابس وجلب المياه من الحنفيات العمومية وحمل مشتريات المتسوقين ، وجميعهم أبوعجيله وحميد وجميل أجبرتهم ظروفهم الاقتصادية للقيام بهذا العمل كان كل واحد منهم يحمل بازه (طبلة) يدق عليها وينادي وهو يلف في الشوارع شهر الخير ياشهر الخير قوموا للسحور يامسملين ويقف أمام البيوت ويغني لأصغر طفل في البيت باسمه وفي آخر ليلة من رمضان وبعد التأكد من حلول شوال يخرج بالزكرة أو النوبة وهما من آلات النفخ الموسيقية الشعبية عازفاً عليها مرددا كلمات أغنية تركية تقول ( ايكو كوزين باي افندم يكون من البركات ) وتعني هذا هو فلان الرائع ربي يشمله بالبركة وفي هذه الأثناء وفي مشاهد فرجوية جميلة كانت الناس تعطية الصدقات والعطايا مقابل عمله طيلة الشهر الكريم .
اخْتَفَت الطّبِيلَة فِي الوَاقِعِ وَلَمْ تَخْتَفي مِنَ الذّاكِرَة
ارتبطت الطبيلة بالشهر الكريم وارتبطنا بها كجيل عاش زمنها ، وكنا نتخيل في الطبال أنه مخلوق خرافي غريب يختلف عن بقية البشر وذلك لحضوره القوي في عالم الحكايات التي كانت تروى للأطفال ، فشخصية المسحراتي كانت من الشخصيات المغرية لنسج الحكايات خاصة وهو يدور وحيداً رفقة طبلته يردد أهازيجه في سكون الليل وقت السحور، ما جعله يكتسب حيزاً خاصا في نفوس السكان ، أما الطّبيلة فهي من التقاليذ الجميلة التي فقدتها مدينة طرابلس مع مدفع الإفطار وهي من العادات التي لازالت تعيش في الذاكرة رغم اختفائهما في الواقع ، فمن الصعب جدا نسيان انطلاقة مدفع الإفطار من برج السرايا الحمراء وقت الإفطار وصوت المسحراتي وهو ينادي على دقات طبلته في سكون الليل وقت السحور.
مِنَ المُؤْلِمِ أنْ يَخْجَلَ الأحْفَادُ مِنْ مِهْنَةٍ مُبَارَكَةٍ مَارَسَهَا الأجْدَادُ
الحاج البهلول 83 سنة من القلائل الذين لازالوا على قيد الحياة من الذين مارسوا هذه المهنة في طرابلس ، تردد كثيراً قبل أن يقتح قلبه لي ويحدثني عن مهنته ، وبعد محاولات تدخل فيها أحد معارفه وافق على الحديث بشرط عدم الإشارة إلى اسمه الحقيقي ، والحاج البهلول لازال بصحة جيدة ويتمتع بذاكرة لازالت تتذكر أدق تفاصيل مهنته التي تركها مجبرا في منتصف سبعنيات القرن الماضي يرى أن الطبيلة في ضواحي طرابلس تختلف في بعض تفاصيلها عن ماهو موجود في السنوات الأخيرة داخل أسوارها فما كان يقوم به شخص واحد ثابت ورث المهنة عن أجداده صار يقوم به مجموعة أشخاص غير ثابتين تفرضهم الظروف ، وتاريخيا تعتبر الطبيلة من المهن التخصصيه التي تمارسها عائلات معينة وحسب العرف الاجتماعي السائد لايحق لغيرهم ممارستها باعتباره حقاً لهم ورثوه عن أجدادهم وعائلتي من أصحاب هذه المهنة منذ القدم مارسها جدي في أواخر العهد التركي وبداية العهد الإيطالي ومارسها أبي من أربعينيات إلى ستينيات القرن الماضي وتوليت أنا المهمة بعد وفاته وتعلمت أصولها منذ الصغر من خلال مرافقتي له في طفولتي وهي بالنسبة لي ليست مجرد عمل بقدر ماهي أمانة انتقلت لي من أجدادي يجب أن أحافظ عليها وكنت أتمنى أن يمارسها أبنائي إلا أنها توقفت عندي بعد رفضهم تعلمها وبعد أن رأيت عدم رغبتهم في استمراري في هذه المهنة فتركتها استجابة لرغبتهم رغم حبي وعشقى لها . يواصل الحاج البهلول حديثه بقوله ازدهرت الطبيلة في عهد الأتراك والقرمانليين حيث كانت تحظى بمتابعة ورعاية الولاة وتعامل معها الإيطاليون والإنجليز في فترة حكمهم كطقس ديني يحظى بالاحترام ولم يتعرضوا له بسوء ، وكذلك شهدت اهتماما ورعاية وازدهارا في عهد الاستقلال
وفي جميع هذه المراحل ظلت مهنة أهلية الأهالي هم من كان يدفع أجرة الطبال وتتم عملية الدفع في أجواء احتفالية بهيجة يستمتع بها الكبار والصغار وكانت من مصادر الرزق لنا حيث قال لي والدي إن ما يجنيه من عمله في رمضان كان يكفي لتغطية نفقات أسرته من أربعة إلى خمسة اشهر فالبركة كانت حاضرة فيما يجمع ويختم الحاج البهلول حديثه بقوله أشعر بالذنب وبأنني ارتكبت خطأ في حق أجدادي بتركي مهنتهم ورغم مرور سنين طويلة على تركي لها مازال الحنين يشدني آليها وأتمنى لو تعود بي الأيام للوراء وأعود من جديد لإيقاظ الناس وإدخال الفرحة والبهجة في نفوس الكبار والصغار وأعيد الاعتبار لمهنة عشقتها ومارسها أجدادي ومن المؤسف والمؤلم أن يخجل الأبناء والأحفاد من مهنة مباركة مارسها الأجداد .
اديدَاب ادبدَاب كَلِمَاتٌ كَانَ يُرَدّدُهَا أطْفَالُ زُوَارَة
ادبداب هكذا يسمى في مدينة زوارة من كان يوقظ الناس للسحور وهي كلمة أمازيغية تعني ضارب الدبدبة أي الطبلة ، كان حاضرا في شهر رمضان يجوب شوارع المدينة إلى غاية منتصف تسعينيات القرن الماضي ، يقوم بمهمة التبليغ عن حلول شهر رمضان وحلول عيد الفطر وتتم عملية التبليغ في مشهد جميل تختلط فيه أصوات الأطفال مع دقات الدبدبة وما يردده الدبداب من عبارات ، ومن الأشياء التي لا زلت أتذكرها هو تجمع الأطفال حول ذلك الرجل الأسمر الطويل المرح وهو يسير بطبلته في الشوارع وهم يسيرون خلفه يصفقون ويرددون في فرح وسرور ادبداب ادبداب أما مهمته الثانية فهي التنبيه لوقت السحور ” تيسكارين بالأمازيغية ” وذلك بالنقر على طبلته في مواعيد مضبوطة بدقة وعندما يقترب موعد الإمساك والذي يتزامن مع نهاية جولته يقف أمام بيت أحد الميسورين ماديا ويدق على بابه فيعرف أصحاب البيت أن الدبداب يريد سحوره فيتم إكرامه بأحسن ما لديهم وكثيرا ما يتجاوز الإكرام مجرد وجبة السحور .
تَجْرِبَةٌ شَبَابِيّة لَمْ تَسْتَمِرّ
آخر من تولى هذه المهمة في مدينة زوارة هو المرحوم امحمد الهوش الملقب بالسفه وقبل وفاته بسنوات كان يصطحب معه ابنه صلاح لكي يلقنه أصول المهنة التي ورثها عن أجداده وبعد رحيل الوالد استلم الابن المهمة وعن تجربة الشباب مع مهنة الأجداد ذكر لي أحد أصدقاء صالح بأن الابن أحب مهنة والده وتولى المهمة بعده ، لقد كان جاري وصديقي المقرب يقول محدثي وقد شاركته جولاته الليلية في أحد السنوات من باب التسلية ولغرض معرفة أسرار هذه المهنة ، كنا نجوب شوارع المدينة بداية من شارع ولدون شرق المدينة إلى غاية شارع أولاد عيسى غربها وكنت أرى تجاوب الناس معنا ، إنه عمل رائع وممتع ما أجملها تلك الأيام كنا نعيشها ببساطة والجود كان من الموجود . ولكن قد تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن فهذا العمل الرائع الممتع وتجربة الجيل الجديد معها لم تستمر طويلا بسبب رحيل صلاح المبكر بعد وقت قصير من رحيل والده وبفقدانه فقدت المدينة تقليدا من التقاليد العريقة التي ارتبطت بهذا الشهر الكريم وارتبط الناس بها .
تَوْدِيعُ المُسَحّرَاتِيّ بِالهَدَايَا وَالصّدَقَاتِ
في نهاية الشهر يتكرر مشهد التبليغ كما حدث في بداية الشهر ، ولكن هذه المرة التبليغ عن حلول عيد الفطر وهو موعد جمع الغلّة التي يساهم فيها الجميع حيث يكرمه أهالي المدينة مقابل عمله والكل كان يحرص على إكرامه حسب قدرته ولو بالقليل وبعد الانتهاء من جولته الأخيرة يعود إلى بيته محملا بما جمع داعيا لسكان مدينته بطول العمر وسعة الرزق ودوام الخير منتظرا عاماً جديداً حيث ينفض الغبار عن طبلته لتكرار نفس المشاهد التي ورثها عن آبائه وأجداده وإحياء تقليد موغل في القدم مازال يحن إليه كل من عاش أحداثه واستيقظ ذات ليلة لتناول سحوره على دقات طبلته وأنغامه المناسبة في هدوء الليل وسكونه ، كان هذا ذات يوم قريب وانتهى كما انتهت كل الأشياء الجميلة التي كانت تدخل الفرح والسرور رغم بساطتها.