- سعاد سالم
سؤال البقاء : وين عَلْيَا؟
قانون البقاء للأصلح أو للأقوى وللأذكى ليس قانونا وانما اجتهادات لأن داروين يقول البقاء ليس لكل هؤلاء بل للأكثر استجابة للتغيير، ولو راقبنا انفسنا عن كثب لوجدنا قانون البقاء لايعبر فقط عن الابقاء على الحياة مقابل الموت،أو بقاء النموذج الذي سيخلد نفسه في أجيال متعاقبة، كما قال، ولكنه يعمل بصورة غير مستهجنة وربما غير ملحوظة أصلا على المستوى النفسي ،قانون بقاء يطبق يوماتي في صورة صراع شرس يشبه مشهد تعلق الغريق بغريق آخر مستعملا جسده للوصول لشهيق الحياة.أو حتى في التغذي على جتثه لو لزم الأمر وعلى تعاسته لما لا؟
ساحة لِفْنَا
حل العام 2014 ،وأنا في المدينة الحمراء مراكش، الطقس البارد والسماء ملساء تبقص نجومها المزدحمة ،ورغم نزول صوت المؤذن دافئا فوق الحشود في الساحة المراكشية الشهيرة بسم الجامع،إلا إنه لم يبدّل شعوري بعدم الراحة وأنا اشاهد السيرك البدائي كما كان يقام في الكتب ،وفي رسوم سندباد ، أو علاء الدين في أفلام ديزني ،في الساحة التي يتقاتل في سيركها ذاك بشره وطيوره وقروده وثعابينه بالنداء والاستعراضات مايملأ المكان عن آخره بال(تيستوستيرون) على بعض الدراهم ،بدا كل شيء رث وبائس ويدعو للسؤال، لماذا تمتليء ساحة لفنا بالسواح وهى على هذا الحال؟ وكيف يطيب لهم التقاط الصور ،والبهجة في طقس تنافسي يتجدد يوميا ،فتختلط تحت الأضواء ليلا أو تحت الشمس الشحيحة روائح الطعام بروائح العطور و الحناء ترسمها المغربيات على سيقان السائحات، وفي أركان أخرى يتلوى بخار عربات البلبوش المسلوق،مع صنّة القهوة المحمصة في اكشاك المكسرات،سيبدو هذا ساحرا لو قاومت شعور ثقيل بالعطف الذي يجعلني أراها مسرحا رومانيا، ثم وجدت الجواب لاحقا في قراءة عن سياحة الفقر ،يذهب فيها الناس إلى الأماكن الرثة والفقيرة ليعودوا إلى بلدانهم مملؤين بالرضا عن حياتهم،وعن ضنكهم الخاص ،وتصمت إلى حين اسئلتهم الوجودية،فقد وجدوا بدورهم الجواب، قد يموت هولاء المجالدين لولا نقودنا،هل الصورة بشعة؟ بدا لي ارتباكي منطقيا الآن.
ماتشبحش لفوق
على عكس مايرمي إليه فيلم Don´t look up، الذي يتحدث عن التعامي عن النظر للمشكلات ويزيف الوعي بالتظاهر بالسيطرة على الأمور ،ويغذي الرؤية السطحية لكل شيء بما فيها قشرة الناس الخارجية ، غير أن عنوان الفيلم لاتنظر إلى أعلى أو للسماء يتقاطع مع النصيحة المقدسة: ديما اشبح للي لوطا، إذ تدعوك النصيحة إلى التعامل بأقل قدر ممكن من الانزعاج مع مشاكلك بالنظر لآخرين اسوأ حظا منك.
شوف للي دون منك تستراح، كم مرة قاطعت هذه الكلمات مشاعر الغضب والاحباط والفشل وحتى الهزيمة لأحدنا ،إنها ببساطة تقول من أجل أن تجد دافعا للاستمرار في العيش بأقل مرارة ممكنة، تأمل من هم أكثر منك شعورا بالمرارة، هكذا بكل حسن نية دفاعات العقل، وسماحته مع ارتياح صاحبه بتأمل حيوات أخرى منهارة أو تكاد، أحيانا بالاندماج فيها في شكل احسان ،صدقات ،جمعيات خيرية، فاليد العليا خير من اليد السفلى،كما تعلمون،وأيضا بالصداقات، تصورتم؟
وين عَلْيَا؟
أول مرة انتبهت لتجسدات البقاء بمعناه النفسي في حكاية سردتها عرضا صديقة لي،وتركتني اتأمل المشهد فيما واصلت الضحك، هل شاركتها؟ ربما لكنني كنت نفسيا في معضلة اخلاقية تفترض أنني أشجب تقبل الحكاية على أنها ملهاة كما الحال في ساحة لِفْنَا، أوكما تجاهل وجود العازفين فيما اتناول عشاءا في مطعم وانشيء حديثا لاعلاقة له بالموسيقى المنتشرة فوق الطعام والهدرزة وقرقعة الملاعق على الصحون تشارك السيكسفون أو العود أو البيانو والقانون ،واحيانا تعلو على صوت الغناء إن وجد ، تقول الحكاية أن فلانة حينما تحاصرها التعاسة من عمل او علاقة تذّكر نفسها بعَلْيَا،وتعبيرها كان دقيقا بسؤالها لنفسها هكذا :وين عَلْيَا؟ ف (عَلْيَا) حسب وجهة نظر صاحبة هذه الحيلة النفسية ،فيها كل ماتعتبره فشلا وغير جذاب وحتى منفّر، انها التي لن تحظى بترقية أو بعلاقة يوما،فضلا عن زوج ، وهكذا تشبتت بلوح الخشب خاصتها عَلْيَا في كل مرة تشارف فيها على الغرق في التعاسة، إلى أن بحثت يوما عن لوحها وعرفت أنه صار شخصا في حياة لائقة، ولا أعرف إن كانت فلانة وجدت لها لوحا جديدا بسم تاني.
بروحي مش مشاركة؟
هل ألوم النفس عن اتباع غريزتها للنجاة والبقاء؟ نعم، إنه جزء الفجور واسميه شرا، لأنه حافظ باستمرار على كل الأنماط الطبقية وعلى الفساد، بيئة منتجة للألواح في مواجهة الجشع والأسئلة الصعبة ، لذا نضع هذا الشر تحت كل المسميات إلا اسمه الحقيقي التغذي والتعزي بأضرار الآخرين، ليس بطريقة عمل مجموعات مرض مستعص ،أو الإدمان،أو الاكتئاب لما فيها من مشاركة ومؤازرة لأن كل فرد فيهم يمر بنفس الظروف، انما بمنطق ( الحمد لله الذي عفانا مما ابتلاكم به، وفضّلَنا على كثير من عباده) وبهذا ربما نفهم وبتجلي أكثر لماذا الذين يملكون نفسا لوّامة، لاتذعن لاشتراطات البقاء في صورته المطلقة يهروبون من افتراضات الناس عن السعادة وعن الحياة برغم مالديهم من ثراء وجاه أحيانا ، حتى أنه يكون عبئا وعبئا آخر بعقولهم ، وفوق ذلك أنهم الأكثر تبصرا لما تحت البريق،من احتشاد الأسى وتفاقم الحرمان،وربما نفهم قليلا لماذا الظلم الذي يستهجنه الجميع، قلة فقط من يحاولون فعل شيء لايقافه أو الحد من تداعياته ولو بأصغر الانتصارات، فمقابل اشبح للي دون منك ترتاح في الكفة الثانية ماسمعته من حنّاي: ماطاوعيش نفسك ، النفس اعْدّو، وهي التي تعلمت كتابة اسمها في الخمسين بمدرسة محو الأمية ،ولم تعرف جبران خليل جبران الذي كتب :وقال الربُّ (أحبّوا اعداءكم )فأطعتُهُ وأحببتُ ذاتي ، لهذا اقترح أن نتساءل كلما حققنا تقدما في حياتنا ،وين الصحاب؟ لأن الفرح هو سؤال الجزء التقي من النفس هل أنا مع اصحابي لأن عندهم مشاكل؟ هل صحابي موجودين في حياتي الجديدة الجيدة ،كما كانوا في القديمة التعيسة؟ لأني أتذكر جيدا كيف كنت دائما حايرة لماذا أغنية لعراس زمان تقول : فهالليلة المباركة ،بروحي مش مشاركة.