عبدالرحمن جماعة
خرَّافة أم بسيسي لم تكن مجرد حكاية شعبية، تحكيها العجائز للصغار، وهم يتحلقون على النار في ليالي الشتاء الباردة.
فمنذ أن خسر الفأر ذيله، وهو لا يزال يتجول بين العنز والسدرة والخروبة والراعي والوادي والحداد والفرس وغيرها!.
وفي كل مرة يضطر لتبرير فقدان ذيله، ويعيد القصة من أولها، ثم يُحيله السامع إلى غيره، ويطلب منه دفع ثمن الخدمة، في نوع من أعقد إجراءات البيروقراطية التي شهدها التاريخ، وفي أطول رحلة لترميم ما خرب، ولإصلاح ما عطب، ولاستعادة ما ذهب!.
وكلما أحس الفأر المسكين ببارقة أمل، تزداد المشكلة تعقيداً، وكلما أحس بقرب نهاية الرحلة ازدادت المسافة، وبعدت الشقة، واتسعت الجوبة، وتلاشت بقايا الأمل في استعادة ذيله!.
هل كان خطأ الفأر أنه شرب من الحليب أصلاً، أم أن خطأه أنه مسح أحد شاربيه وترك الآخر؟!.
لا يهم..
لكن المهم هو أن الفأر لا يزال يطوف بين أصحاب الحل والعقد، عله يجد حلاً لمعضلته، والمهم أيضاً أن طوافه لم يزده إلا شقاءً ويأساً، ولم يزد المشكلة إلا تعقيداً وإلتباساً!.
ورغم كثرة الأعياد التي مرت عليه، إلا أنه لا يزال يستقبل العيد بلا ذيل، ولا يزال يرقص بلا ذيل، ولا يزال يُعانق أهله ومحبيه بلا ذيل!.
إن البحث عن حل عند الآخرين مكلف جداً، ومرهق جداً، وغالباً مخجل جداً، لأن الآخرين لن يقدموا لك الحل بالمجان، بل سيطلبون منك خدمة أو أجراً لقاء ما تطلبه، وكلما حاولت تلبية طلبهم ظهرت لك طلبات أخرى، لتصبح في سلسلة لا تنتهي من الطلبات وتلبية الطلبات، وفي كل مرة تزداد بعداً عن الحل وعن أم بسيسي، وعن استعادة الذيل!.
ليس عيباً في أصحاب الحل والعقد أن يطلبوا مقابلاً لحل المشكلة، حتى ولو كان هذا الحل هو التنازل عن جزء من كرامتك، مع العلم بأن الكرامة لا تتجزأ، أو أن تعترف بحق الذئب في حصة من الغنم، أو أن تغير من بعض طباعك وعاداتك وتقاليدك، كأن تصبح نباتياً أو حتى مثلياً!.
لكن العيب فيك أنت حيث حفيت قدماك وأنت تطوف بين أصحاب المصالح تُلبي لهم رغباتهم، وتُحقق لهم مصالحهم ومطامعهم، طمعاً في إلتفاتة منهم لمعاناتك، وفي رأفة منهم بحالك، حتى صرت كم ينتظر الغيث من رعد خُلَّب، أو كمن يهرب من الرمضاء إلى (الملَّال الحامي)!.
إن فقدان الذيل يعني فقدان التوازن، وفقدان الهيبة.. وربما فقدان الهوية، لكن أم بسيسي لم تكن تريد تلقين الفأر درساً، ولم تكن ترغب في معاقبته، وإنما أرادت إلهاءه في نفسه، وإشغاله عنها، فقد كانت على وعي تام (بدخانيس) السياسة، (ودخنسة) الساسة!.
إن تعقد المشكلة يكمن في كون المشكلة ولَّادة، فكلما حاولت حلها إزدادت إلتباساً واستعصاءاً وتعسراً، وكلما حاولت كبتها وكبحها ازدادت انشطاراً وانتشاراً، الأمر الذي يُحتم عليك أن تعود إلى نقطة البداية لتربط كل الأحداث ببعضها، كنوع من لملمة الشتات، أو كمحاولة لنظم المتناثر في خيط واحد، بهدف إيجاد حلٍ واحد لمعضلة متفاقمة، ومتشابكة، ومتراكبة، ومتعددة الأبعاد، أو بهدف إيجاد مفتاح واحد لجميع المغاليق، لكن الكرناف يأبى أن يجتمع في حزمة واحدة!.
إن خرافة أم بسيسي تعني أن المشكلة يُمكن حلها في مهدها، وقبل أن تتعدد أطرافها، وتتشعب أبعادها، وقبل أن يطول الخيط وتضيع الإبرة، وتعني أيضاً أن ما يُطلق بالعين لا يُمكن تتبعه بالجرة!.
فهل كان على الفأر أن يتفاوض مع أم بسيسي لإيجاد حل بينه وبينها يُرضي الطرفين، ويحفظ ماء الوجه، دون إشراك أطراف (برانية) لا يهمها إلا رغباتها الذاتية، ومصالحها الشخصية، وأطماعها الآنية؟!.
… لا ندري!.
ولكن كل الذي نعرفه أن الفأر لا يزال يركض بين هذا وذاك، محققاً كل المصالح إلا مصلحته هو، ومعالجاً كل المعضلات إلا معضلته هو، وملبياً كل الرغبات إلا رغبته هو!.
ونحن نُدرك أيضاً أن الفأر سيسترجع ذيله يوماً ما، وسيرقص به في نهار العيد، ولكن بعد أن يصبح الذيل على غير مقاسه، وبعد أن يفقد النهار نوره، والعيد بهجته!.