بقلم :: شكري السنكي
رجل الموقف وقلـم الميدان !
رحيل فاضل المسعودي.. عميد الصحفيين الِلّيبيّين
رحل فاضل المسعودي الصّحفي الكبير وصاحب البصمة المشهودة في تاريخ الصحافة الِلّيبيّة منذ بداية مشواره الصحفي برفقة زميله محمّد عُمر الطشاني (1935م – 2005م)، طيّب الله ثراه، فِي خمسينات القرن المنصرم.. المسعودي الّذِي كان له دور بالغ ومهم فِي مقارعة الاستبداد منذ صدور مجلّة: (صوت ليبَيا) أوَّل صحيفة معارضة فِي المهجر، والّتي صدر عددها الأول فِي شهر أبريل 1979م، والّذِي كان له بصمة واضحـة فِي تاريخ الصحافة الِلّيبيّة والعربيّة، مِن خلال مجلّة (الميدان) الّتي أسسها فِي العَام 1964م فِي طرابلس، والّتي استأنف صدورها مِن المنفى فِي نوفمبر 1988م بعْد أن دام إغلاقها تسعة عشر عاماً على يد انقلابيي سبتمبر.
رحل فاضل المسعودي الشاهد على تحولات كبيرة وأحداث كثيرة عاشتها ليبَيا الّتي ابتليت بانقلاب كان الأسوأ فِي المنطقة.. وصاحب المواقف الجريئة والاطلاع الواسع، والّذِي تنقل بين بلدان عديدة، وزار دولاً كثيرة وتكونت لديه ثقافة كبيرة مكّنتهُ مِن امتلاك مفاتيح الوصول إِلى جميـع القرَّاء.. والّذِي التقى مناضلين كثراً وكتَّاباً عرباً وأجانب عديدين، وسياسيين مِن بلدان مختلفة، طيلة مسيرته الصحفية والنضاليّة التي لم يكتب لها أن ترى النور فِي مذكرات.
رحل فاضل المسعودي المولود العَام 1934م صاحب التاريخ المشهود فِي العمل الصحفي، والمُناضل الّذِي كان مِن أوائل الّذِين تصدوا لانقلاب سبتمبر 1969م، حيث كتب مقالاً مناهضا للانقلابيين ونشره فِي الصفحة الأولى مِن “الميدان” بعْد أسابيع مِن واقعة الانقلاب، فأصدر قائد الانقلاب فِي العشرين مِن نوفمبر1969م قراراً بإغلاق صحيفته ثم مصادرة إملاكه وممتلكاته، فاضطر للهجرة فِي الشهر نفسه بعْد تهديده بالملاحقة والقتل. وقد صدر قرار مصادرة أملاكه ضمن قائمة تضم خمسة وعشرون اسماً، حيث أمر مَا كان يُسمّى بـ(مجلس قيادة الثورة) بعودة هؤلاء الأشخاص إِلى ليبَيا خلال مدة أقصاها تسعين (90) يوماً مِن تاريخ صدور القرار المؤرخ بتاريخ 27 نوفمبر 1970م، وإلاّ آلت ممتلكاتهم إِلى حيازة الدولة. ومن بين أملاكه تلك، مكتب ومخزن تابعان لجريدته (الميدان)، وعقاران بمنطقة بِن عاشور بمدينة طرابلس.
رحل فاضل المسعودي الصّحفي المخضرم، والمُناضل الصلب الّذِي وقف بوجه الانقلابيين، والّذِي عرّف هُو بنفسه فِي مُداخلة بمناسبة الذّكرى الثانيّة والأربعين لرحيل السّيِد محمود المنتصر رئيس أوَّل حكومة لّيبيّة فِي دولة الاستقلال، فقال:..”.. أنا فاضل المسعودي، الصّحفي، وابن أحمَد المسعودي القاضي.. وحفيد الشيخ سعيد أحمَد المسعودي، الّذِي رحل عَن الدنيا وكان قد تجاوز المائة، وكان شيخاً للطريقة العيساويّة وصاحب زاويةٍ فِي منطقة طرابلس، وهُو أحدُ رجال القضاء فِي العهد العثماني، ولكنه عند اندلاع الحرب الِلّيبيّة – الإيطاليّة، أصبح إماماً (للطبجية) أيَّ شيخاً وواعظاً فِي الجيش التركي ومجاهداً فِي الحرب وزميلاً وصديقاً للزّعيم سُليْمان باشا الباروني، ثمّ مهاجراً معه إِلى تركيا وبلاد الشّام، وأحدُ الّذِين حَكم عليهم الإيطاليون بِالإعدامِ غيابياً، وصادروا ممتلكاته، ومنها مَنزله الّذِي بٍنت عليه بلدية طرابلس فيما بعد ، فندق وكازينو ( الودّان).. وله أتباع ومُريدون وتلاميذ كُثر فِي ليبَيا.. وهُو عميد أسرة المسعودي في شط الهنشير وحفيدُ الوليّ الشهير (سيِّدي الصيّد) وجدّهُ مدفون هُو الآخر، إِلى جانب ضريح الصيّد..”.
عاش فاضل المسعودي ثمانية وأربعين عاماً فِي المهجر، وبدأت قصته مع الصحافة منذ أن كان طالباً يدرس بكلية الحُقُوق بالقاهرة فِي خمسينات القرن الماضي. أرسله والده السّيِّد أحمَد المسعودي الّذِي كان قاضياً، للدراسة فِي مِصْر، فدرس الحُقُوق وكان معه زميله وصديقه الحميم محمّد عُمر الطشاني رحمه الله، ولكنهما لم يستمرا طويلاً فِي الدّراسة وتركا مدرجات كليّة الحُقُوق، وأصدرا مجلّة (المعركة) المُعارضة لما كان يجري فِي بلادهما وقتئذ. وقد ذكر المسعودي عَن هذه المحطّة مِن حياته فِي مُداخلته سالفة الذكر، فقال:..”.. كنت أنا والمرحوم محمّد عُمر الطشاني وأيْضاً المرحومان: البهلول الدهماني وعلي أحمَد بوزقية وآخرون، ضمن المجموع الطلاّبيّة الوحيدة المنظمة فِي القاهرة، والّتي كانت تُمثل واحداً مِن الأحزاب الِلّيبيّة المتشددة فِي موقفها مِن الانجليز والمناهضة للإدارة البريطانيّة بولايّة طرابلس، وإِلى جانب ذلك كنّا فِي (اللّجنة الطرابلسيّة) الّتي يتزعمها الشّيخ الطاهر الزاوي والمؤسسة منذ البدايات، فِي القاهرة، والّتي تتخذ المواقف الوطنيّة نفسها في تلك المرحلة، كنا نُمثل (المصدر) المهم للأخبار ومَا يجري داخل ليبَيا مِن وقائع، بالنسبة للرَّأي العامّ المصري المحدود الاهتمام، والأحزاب والصحف المصريّة. وقد كنّا نرتبط بعلاقات واسعة وقوية مع معظم المُنظمات والأحزاب المصريّة المهتمّة بالقضايا العربيّة وقضيّة ليبَيا على وجه الخصوص. وكان المُستشار فِي كُلِّ مَا نقوم به مِن نشاطات هُو الأستاذ محمّد توفيق المبروك الّذِي كان يكتب بصورة منتظمة عَن ليبيا فِي بعض الصحف المصريّة، منها صحيفة: (منبر الشرق) الّتي يصدرها الشّيخ على الغاياتي..”.
أمّا عَن محطة رفضه المعاهدة الّتي وقّع عليها السّيِّد محمود المنتصر (1903م – 1970م) مع بريطانيا، يخبرنا الصّحفي، المًهْدِي كاجيجي، فيقول:..”.. رفض المسعودي والطشاني الاتفاقيّة الِلّيبيّة – البريطانيّة، الّتي أبرمتها المملكة بحكم حاجتها الماسة وفقرها الشديد، والّتي لم يكن أمامها مِن أجل إقامة دولة سوى قبولها بعرض التمويل الوحيد القاضي بإقامة قواعد عسكريّة للدول المنتصرة فِي الحرب مقابل إيجار سنوي، لم يجد الآباء المؤسسون بحكمتهم بداً مِن قبول هذا العرض الوحيد، رغم مرارته، الّذِى قوبل برفض شديد وعنيف مِن الشباب، وكان فاضل المسعودي واحداً منهم. وقد عبَّر المسعودي مِن خلال إذاعة (صوت العرب) عَن موقفه ورأيه بصحبة رفيقه محمّد الطشاني، وكان هجومهما قاسياً وعنيفاً، ضدَّ المَلِك إدْريْس وحكومته، ثمّ عبر المنشورات الّتي يتم توزيعها على أبناء الجالية الِلّيبيّة فِي القاهرة. ترك المسعودي والطشاني مدرجات كليّة الحقوق واندمجا فِي العمل الوطنيّ, أصدرا مجلّة (المعركة) وصدر الغلاف يحمل رسماً كاريكاتورياً لمائدة المفاوضات يجلس عليها الجانبان الِلّيبيّ والبريطاني تتوسطهما وليمة كبيرة، وعلى الجانب الآخر الشعب الِلّيبيّ معترضاً قائلاً : اللّهُـمَّ إني صائم.
وبعْد هذا الموقف، أصبح المسعودي والطشاني مطلوبين مِن قبل السّلطات الِلّيبيّة، وفِي الوقت نفسه، اختلفا مع إذاعة (صوت العرب) رافضين التعليمات الأمنيّة الّتي تتعارض مع قناعتيهما الوطنيّة. وعلى أحد مقاهي شارع الألفي الشهير كان هُناك لقاء بينهما وبين السّيِّد سيف النَّصر عبدالجليل رئيس المجلس التنفيذي والنائب الأوَّل لولايّة فزَّان، ذلك اللقاء الّذِي قال عنه سيف النَّصـر فِي شهادته: سعيت للقاء بهما، محمّد الطشاني صاحب جريدة (الحريّة) فيما بعدُ،
كان هادئاً وفاضل المسعودي أكثر عصبية واندفاعاً، كان الحديث ذا شجون شمل الوطن والتجربة فِي القاهرة، فشعرت أن الشوق للوطن والعودة هُو المطلب، ولكن، الخوف مِن العقاب هُو الهاجس، فوعدتهما خيراً، وكان اللقاء بداية لصداقة امتدت طويلاً. واستطرد سيف النَّصر قائلاً: عدت إِلى ليبَيا والتقيت بمولاي المَلِك إدْريْس ونقلت له مَا جرى، فالتفت الرجل الحكيم إِلى سكرتيره السّيِّد إدْريْس بو سيف وقال له: أكمل مع سيف النَّصـر كل الترتيبات لعودتهما مكرمين دون مشاكل..”.
وَفِي سنة 1955م، عاد المسعودي إِلى ليبَيا وكانت هذه العودة نقطة تحوّل فِي حيَـاتـه أو بداية تحوّل وصلت لاحقاً أو مع تقدم العمر وتراكـم التجربـة، إِلى الاعتراف بالخطأ والاعتزاز بتجربة السّيِّد إدْريْس السّنُوسي (1890م – 1983م) أميراً وملكاً، والإقرار بأن مَا تمّ تحقيقه فِي عهد المملكة كان إنجازاً عظيماً بِكُلِّ المقاييس.
ورُبّما أَسْتَطْرِد هُنـا لأقـول إنَّ فاضل المسعودي عارض بعض سياسات العهد الملكي ولم يكن معارضاً للنظام الملكي، أو رافضاً لشخص المَلِك إدْريْس الّذِي أحبه ورآه حكيماً وسياسياً مِن طراز رفيــع، وعلاوة على ذلك قد عبَّر عَن اعتذاره للسّيِّد محمود المنتصر وأسفه عمّا صدر منه بخصوص شخصه والمعاهدة الّتي وقّع عليها مع بريطانيا !. وقال فِي المداخلة سالفة الذكر:..”.. كان أحمَد سعيد يُقدّمني للمستمعين فِي صيف 1953م عبر إذاعة (صوت العرب)، فِي جميع الخطابات الّتي أوجهها إِلى ليبَيا باسم (ابن ليبَيا البّار)، وكنت أنا، الشاب الصغير السن، المحدود الوعي والتجربة.. أصف بِكُلِّ جرأة ووقاحة التطرّف والحماس المتشنّج، الرّجل الّذِي لم أكن أعرفه ولا أعرف مَا يخوضه مِن ظروف صعبة وهُو يحاول أن ينقذ بلاده: المرحوم محمود المنتصر، أصفه بـ(الرجل غير المحمود).. وأصرخ بتشنّج، عبر ميكروفون صوت العرب إنّه: (محمود المنكسر) !.
والشّاهد، لقد خرجت ليبَيا مِن الاستعمار الإيطالي وهي (صندوق من الرمال)، حسب تعبير موسوليني، أيَّ دون إمكانّات تؤهلها لقيام دولة !.. كانت – فِي الواقع – أفقر بلد فِي العالم !، ورغم ذلك، فقد قام فيها (شعب) يضمّ أشخاصاً وزعماء لهم طموحات كبيرة وخرافية، وهي (الحلم) بتكوين دولة حرَّة وموحدة وكاملة السيادة.
حاولت ليبَيا الاقتراض للتغلب على العجز فِي الميزانيّة، وطلبت المساعدة مِن الأشقاء لأجل تأمين قيام الدولة وتوفير الحد الأدنى لاحتياجات المواطن، فلم يستجب أحد مِن الأشقاء وبعضهم اشترط تقديم تقديم تنازلات موجعة !!.
إزاء ذلك، لم يكن أمام الحكومة الِلّيبيّة إلاّ القبُول بنصيحة نوري السعيد: الّتي قال فيها: (تدبّروا أمركم واعتمدوا على أنفسكم ولا تنتظروا مِن العرب أيَّ مساعدة) !؟. قبلت الحكومة اللّيبيّة بِالمعاهدةِ لأجل الحُصول على مساعداتٍ تسُدّ بها عجز الميزانية العامّة للدولة، وقيدت المعاهدة بعقد قابل للتجديد والإلغاء، حيث أصرّ الجانب الِلّيبيّ على إعادة النظر فِي مجمل الاتفاقات بعْد عشر سنوات، وهُو الشرط الّذِي اشترطه الجانب الِلّيبيّ وتمسّك به، لأن مدة المعاهدة الأساسيّة عشرون عاماً.. ووضعت بعض الشروط، كإصرارها على عدم استعمال القوَّات البريطانيّة الموجودة فِي ليبَيا ضدَّ الشقيقة مِصْر.
والحاصل، ذهبت إِلى بيت المنتصر وتوجّهت للرجل الكبير الّذِي أسأتُ إليه يوماً مِن الأيّام أيّما إساءة، قبل أن أكتشف بأنني ظلمته، يوم التقيت بأحد عارفيه مِن رجال ليبَيا، فِي القاهرةِ، وقد تفضل الرجل عليّ بتوضيح الأمر وتفنيد كُلِّ مَا أَلصقناه به مِن تهم عَن (المعاهدة) الّتي وقّع عليها مع بريطانيا مِن أجل ليبَيا، ودولة الاستقلال الّتي كانت يومها فِي (الإنعاش) ولم يكن أمامه إلاّ التوقيـع !.
اعتذرت لهذا الرجل الّذِي أبرم المعاهدة الّتي اضطرّ أن يبرمها مِن أجل إنقاذ الدولة الِلّيبيّة، وتحقيق وجودها المُستقل، وتتمكن مِن دفع رواتب موظفيها !!.
وقـع المنتصـر المعاهدة مِن أجل ليبَيا، وانتصرت فِي النهايّة: (واقعية) السّيِّد إدْريْس وحكمته ونظرته المجرّبة لواقع الأمور وإدراكه لواقع شعبه الّذِي عاش وخاض معه تجارب الكفاح والصّراع ضدَّ الطليان والهجرة والحرب العالميّة، ومؤامرات المصالح الدّوليّة المتكالبة ومعاناة التخلف والقصور الذاتي وانعدام الإمكانّات.. نجحت فكرة السّيِّد إدْريْس النيّرة وهي الحرصُ فِي تلك الظروف، فقط، على قيام (دولة) بل أوَّل دولة فِي ليبَيا، يُرفرف فِي سمائها الواسعة والعاليّة، وبحدودها الجغرافية المترامية الأطراف..”.
وبعد هذا الاستطراد أعود إِلى سِيْرَةِ فاضل المسعودي، فقد وصل ورفيقه الطشاني إِلى طرابلس بعْد غياب فِي المنفى لم يدم طويلاً، وقدما اقتراحاً إِلى السّيِّد سيف النَّصـر عبدالجليل يتلخص فِي إصدار جريدة فِي ولايّة فزَّان أسوة بصحيفة: (طرابلس الغرب) فِي ولايّة طرابلس وصحيفة: (برقة الجديدة) فِي ولايّة برقة. قبل سيف النَّصـر اقتراحهما، فأسست أوَّل مطبعة حكوميّة فِي فزَّان ودار للمطبوعات عُيّن الطشاني مديراً لها، وصدرت صحيفة (فزَّان) الّتي شغل منصب رئيس تحريرها الأستاذ فاضل المسعودي.
وبعد سنوات قليلة مِن ذلك، انتقل المسعودي إِلى طرابلس، فعمل فِي قسم الأخبار بوزارة المواصلات منذ تعيينه ابتداءً مِن أوَّل نوفمبر 1958م اعتماداً على تكليف السّيِّد فؤاد الكعبازي الوكيل الدّائـم للوزارة، بنصّ رسالة استلهما مِن السّيِّد أحمَـد الحصائري مدير مصلحة المطبوعات والنشر. وَفِي سبتمبر 1959م، عينه الأستاذ علي الديب صاحب امتياز صحيفة (الِلّيبيّ) ورئيس التَّحرير المسؤول، مديراً لتحرير الصحيفة المذكورة، وبعدها أسس صحيفته الخاصّة: (الميدان) فِي العَام 1964م الّتي نالت إعجاب القرَّاء وحظيت بقدر كبير مِن الاهتمام، وصارت – وفِي وقت قصير جدَّاً – واحدة مِن أشهر الصحف الِلّيبيّة فِي ستينات القرن المنصـرم، الصحيفة الّتي أوقفها معمّر القذّافي عَن الصدور بقرار صدر عَن مجلس ثورته بعْد أسابيع قليلة مِن استيلائه على السّلطة فِي الأوَّل مِن سبتمبر مِن العام 1969م.
وقد ذكر المسعودي عَن هذه المحطّة فِي خطاب ألقاه أمام ملتقى أمازيغ ليبَيا الثّاني المنعقد فِي العام 2006م فِي مكناس المغربية، فقال:..”.. فِي نوفمبر 1969م، بعْد شهرين مِن وقوع اٍنقلاب سبتمبر العسكري، بادر العقيد معمّر القذّافي بإصدار أمره الثوري بإغلاق جريدة (الميدان)، ثمّ مصادرة ممتلكاتي وإجباري على الخروج مِن ليبَيا بسبب رفضي لشعار الاٍنقلاب: (الوحدة العربية الاٍندماجية)، ودعوتي للتركيز على ليبَيا أولاً، وأن الوحدة الّتي تمتلك كُلِّ شروط تحققها الواقعي هي وحدة المغرب الكبير..”.
لم يبق الأستاذ فاضل المسعودي فِي ليبَيا بعْد انقلاب سبتمبر 1969م سوى شهرين، حيث صادر الانقلابيّون صحيفته (الميدان)، وهددوه بإلقاء القبض عليه، فاضطر إِلى مغادرة البلاد فِي نوفمبر 1969م وبقي فِي منفاه مُنْذُ يومِئِذٍ، ولم يعد إلى ليبَيا مُنْذُ ذلك التاريخ.
وصل إِلى تونس أولاً وتنقل بين الجزائز ومِصْر والمغرب وبريطانيا، ثمّ استقر به المقام فِي النهايّة فِي سويسرا الّتي عاش بها أكثر مِن ثلاثين عاماً وتُوفي بها ودُفـن فيها. أسس المسعودي فِي أبريل 1973م، أوّل مُنظمة لّيبيّة فِي المنفى معنية بالدّيمقراطيّة وحُقًوق الإنْسَان، وذلك بعْد تمكّنه مِن الحصول على دعم عدد مِن الطلبة الِلّيبيّين الدّارسين فِي أوربا، وعدد مِن الشّخصيّات الِلّيبيّة المقيمة فِي الخارِجِ وقت ذاك. تحرَّك أعضاء هذه المُنظمة بِكُلِّ حيويّة ونشاط طوال الفترة الواقعة مَا بين 1973م إلى 1976م، حيث قاموا برصد انتهاكات حُقُوق الإنْسَان فِي ليبَيا وراسلوا كافة المُنظمات الدّوليّة المعنية بِحُقُوقِ الإنْسَان كافة وعلى رأسها: العفو الدّوليّة – آمنستي (Amnesty International)، هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch)، بِالإضافةِ إِلى عدد من الدّول والرؤساء والشّخصيّات العالميّة المُهتمة بقضايا الحريّة والدّيمقراطيّة وحُقُوق الإنْسَان. وَرُبّما تعتبر هذَه المُنظمة الّتي أسسها المسعودي وترأسها، هي أوَّل مُنظمة لّيبيّة تؤسس رسميّاً فِي الخارِجِ، ويؤسسها شخص عارض نّظام سبتمبر الانقلاّبـي منذ البدايّة ولاجئ إِلى الخارِجِ بعْد شهرين فقط مِن استيلاء معمّر القذّافي على السّلطة فِي سبتمبر 1969م. انتقل مكتب المُنظمة مِن تونس إِلى الجزائر، ثمّ إِلى جنيف وفيما بعْد إِلى القاهرة. وتوقف نشاط هذه المُنظمة فِي مطلع العَام 1977م، حيث دخل المسعودي فِي اتصالات وحوارات ترجمت فِي نهاية السبعينات بتأسيس تنظيــم وطنيّ سياسي مُعارض، وإصدار مجلّة ناطقة باسم التنظيم، والّتي تولى رئاسة تحريرها المسعودي.
وَفِي سنة 1979م، ساهم فاضل أحمَـد المسعودي ونوري رمضان الكيخيّا (1940م – 25 مارس 2017م) وآخرون فِي تأسيس (الحركة الدّيمقراطيّة الِلّيبيّة)، الّتي أصدرت أوَّل مجلّة وطنيّة مُعارضة لسلطة سبتمبر، تحت اسم (صوت ليبَيا)، وقد صدر عددها الأوَّل فِي 7 أبريل 1979م، وعقدت الحركة مؤتمرها الأوَّل فِي مدينة تطوان بالمملكة المغربيّة، فِي سبتمبر 1980م. وقد انتخب المسعودي فِي اللّجنة المركزيّة، وانتخب نوري الكيخيّا فِي الهيئة القياديّة وعضواً فِي المكتب السّياسي للحركة.
اندمجت (الحركة الدّيمقراطيّة الِلّيبيّة) الّتي كان يقودها فاضل المسعودي ونوري الكيخيّا، مع (التجمع الوطنيّ الِلّيبيّ)، الّذِي كان يقوده الدّكتور محمود سُليْمان المغربي (1935م – 17 يوليو 2009م) والأستاذ محمّد فضل زيان، فِي تنظيم واحد تحت اسم: (التجمع الوطنيّ الدّيمقراطي الِلّيبيّ)، وقد أُعلن عَن هذا الاندماج عقب مؤتمر لندن المُنعقد بلندن فِي السّادس عشر مِن سبتمبر 1981م، وصارت مجلّة: (صوت ليبَيا) هي الناطقة باسم التنظيم الجديد. وقد كلّف فاضل المسعودي مجدَّداً بالإشراف على مجلّة: (صوت ليبَيا) ورئاسة تحريرها، وكتب فِي المجلّة مجموعة مِن المقالات المهمّة باسمه الحركي (ياسكو بن دراكو) الّذِي عُرف به وقتئذ، وبعْد استئناف صدور مجلّة: (الميدان) فِي شهر نوفمبر 1988م نشر المسعودي مقالاته باسمـه الحقيقــي فِي المجلّة المذكورة.
وفِي النَّصـف الثّاني مِن الثمانينات، استقال فاضل المسعودي مِن (التجمع الوطنيّ الدّيمقراطي الِلّيبيّ) وأسس حزباً وطنياً، وقد استقال معه الرَّاحل إبراهيم الجوهري (1948م – 4 فبراير 2018م) الّذِي ساهم معه فِي تأسيس الحزب الجديـد.
اقترب الأستاذ فاضل المسعودي مِن الأمير محمّد الحسَن الرَّضا السّنُوسي بعْد استقرار الأمير فِي لندن بعْد خروج والده سمو الأمير الحسَن الرَّضا السّنُوسي ولّي العهد، مِن ليبَيا فِي شهر أكتوبر 1988م للعلاج، ثمّ استقر فِي لندن حتَّى وفاته يوم 28 أبريل 1992م، وقد دفن سموه بقرب قبر سيِّدنا محمّد عليه الصلاة والسّلام، وبِجانبِ قبر عمّه المَلِك إدْريْس السّنُوسي فِي البقيع بالمدينة المنورة.
اتصل الأستاذ فاضل بالأمير محمّد الحسَن وريث العرش، وتطورت علاقته به مع مرور السنوات، وكانا يلتقيان بين الحين والآخر، وكان المسعودي داعماً للأمير محمّد الحسَن السّنُوسي، ومطالباً بِالعودةِ إِلى الشّرعيّة الدّستوريّة وفق آخر مَا انتهت إليه فِي 31 أغسطس 1969م. وظلّ المسعودي على هذا الرَّأي حتَّى لاقى وجه ربه فِي بيته بمدينة فيفي (Vevey) السويسرية، عَن عمر ناهز الـ(84) عاماً.
ورُبّما تكون الرسالة الّتي أرسلها المسعودي إِلى مؤلف كلمات نشيدنا الوطنيّ، الشّاعر التونسي العبقري، البشير العريبي، خير دليل ومثال على مدى اعتزاز المسعودي بتاريخ الأجداد والآباء المؤسسين، ومدى ارتباطه بعلم الدولة ونشيدها الرَّسمي، وكيف كانت علاقته بسمو الأميــر محمّد. أرسل الأستاذ فاضل المسعودي رسالة موقعة باسمه واسم الأمير محمّد الحسَن الرَّضا السّنُوسي بتاريخ 1 نوفمبر 2010م إِلى الشّاعر التونسي البشير العريبي الّذِي كتب كلمات نشيدنا الوطنيّ الرَّسمي، النشيد الّذِي وضع موسيقاه المُوسيقار المصري الرَّاحل محمّد عبْدالوهاب. وطلب المسعودي باسمه وباسم الأمير محمّد، مِن العريبي مساعدتهما فِي العثور على (نسخة جيّدة التسجيل) للنشيد، وأكد أنهما بذلا الكثير مِن الجهود للعثور (على نسخة جيّدة التسجيل) لدى كثير مِن الإذاعات العربيّة !، ولا أحد استجاب لطلبهما !. راجياً مساعدتهما فِي الحصول على النسخة المطلوبة مِن أرشيفه الشخصي أو مِن أرشيف الإذاعة التونسيّة. وطلب منه أيْضاً ضرب موعد للقاء به مؤكداً حرصه وحرص سمو الأمير على التشرف بلقائه ومعرفته عَن قرب، وأن شخصه الكريم يحظى باحترام وإجلال وتقدير كُل الِلّيبيّين الوطنيين الشرفاء.
والحاصل، عاش المسعودي فِي المنفى وطالت سنوات غربته، واستطالت إِلى ما يقارب مِن نصف قرن، وأكثر مَا كان يؤلمه فِي غربته تحول ديار الوطن إِلى فيافي مقفرة موحشة وغريبة، ورحيل الأهل والأحباب تباعاً بعدما كان يعتقد أنه سيعود إِلى الوطن الّذِي رحل منه شاباً، وَفِى العمر بقية !.
رحلت رفيقة عمره وأنيسته فِي وحدته وغربته، منذ سنوات قليلة مضت، توفيت زوجته ورفيقة مشوار عمره، الجزائريّة سليلة بيت العلم والأسرة المُناضلة الّتي رفضت الاستعمار الفرنسي وقاومته، وبذل جزء مِن أبنائها أرواحهم لأجل تحرير الجزائر.. رحلت المرأة التي كان يعتبرها فاضل كُلِّ شيء فِي حياته، رحل نصفه الآخر ولم يبق له مِن بعدها عنوان يأوي إليه، رحلت وتركته وحيداً فِي غربته، وبعد وفاتها تراجعت صحته وأثر فراقها فيه إيما تأثير، فاختلطت لوعة الفراق مع المرض الّذِي بدأ يغزو جسده المنهك حتَّى أسلمت روحه إِلى بارئها.
رحلت رفيقة مشوار عمره فجأة، وقبلها رحل أخوه أسعد، وسطر فاضل سطوراً عَن رحيل الأحباب ووحشة البعاد وقسوة الاغتراب، وجاءت سطوره تلك فِي ردٍ على تعزية أحد أقاربه، وسطر فِي الرسالة فيض عواطفه ومشاعره، وكيف تكون الحيَاة موحشة وقاسية عندما يرحل الأحباب وتفترسك وحشة البعاد وقسوة الاغتراب، وقال فِي بعض سطور تلك الرسالة:..”.. الزمان انتزعني مِن بين الأقارب والأصحاب والأصدقاء، وَمِن وطنيّ، وحُكِم عليّ بعشرات السنين مِن الغربة حتَّى رحلوا جميعاً.. تركت كُلِّ هؤلاء خلفي أحياء، ورحلوا تباعاً فِي غيبتي الطويلة وزادوا فِي حجم مأساتي وَفِي وحشة غربتي وقسوة الأحزان !.
وكم هي الحياة موحشة وقاسية وكئيبة عندما يرحل الأحباب والأصحاب وتفترسك وحشة البعاد وقسوة الاغتراب ؟.
أتذكر أنني كنت فِي عنفوان الشباب عندما وقعت الكارثة واضطرتني وقائع النكبة إِلى الرحيل على عجل، بعيداً عَن الوطن، إلاّ أنني كنت يومها أحلم بأنني سأعود إليه وفِي العمر بقية، والأحباب لا يزالون أحياء، ولكن سنوات الغربة طالت واستطالت، وأبادت سنونها القاسية أعمارنا وغيبت أحباءنا.. وغيبت أيضا “رفيقة مشوار العمر”، إذ رحلت هي الأخرى فجأة لتترك لي وحشة دائمة وحزنا لا يزول..”.
عاصر فاضل المسعودي أجيالاً مختلفة، واختلف معه بعض الرَّفاق، وكان له رأيه المستقل، وأسلوبه الخاصّ، ومنهجه فِي الرؤيّة والتحليل. اختلف معه أعضاء تنظيمه: (التجمع الوطنيّ الدّيمقراطي الِلّيبيّ) بعْد انشقاقه عَن التجمع وتأسيسه حزباً جديداً. وبعدما ذهب بأمازيغيته بعيداً، اختلف معه الكثيرون، ووجه له الكثير مِن الانتقادات ورُبّما الاتهامات، خصوصاً بعْد التصريحات الّتي أدَّلى بها عقب حضوره ملتقى أمازيغ ليبَيا الثّاني المنعقد يوم 19 يوليو 2007م فِي مكناس بالمملكة المغربيّة !.
واختلف معه عدد مِن أعضاء (التحالف الوطنيّ الِلّيبيّ) الّذِي أُعلن عَن ميثاقه فِي 25 نوفمبر 1987م، وذلك بعد تشكيكه فِي الجلسة المنعقدة بتاريخ 18 يناير 1988م والّتي تمّ فيها انتخاب الأمين العام !.
والحق الَّذِي لا مِرَاء فِيه، حتّى الّذِين اختلفوا مع فاضل المسعودي، أحَبّوا قلمه واحترموه ولم يبخسوه حقه فِي كونه مُناضلاً كبيراً وصاحب تجربة عريضة وموقف وطنيّ مقدّر مِن الجميع.
وَأَخِيْراً، بِالرَّغمِ مِن الضريبة الباهظة الّتي دفعها فاضل المسعودي مِن أجل بلاده الّتي أحبّها بصدق وإخلاص منقطع النظير.. وَمِن غربته الّتي طالت حوالي نصف قرن، إلاّ أن حبّه لبلاده كان يتعاظم ويزداد يوماً بعْد يومٍ، ولا ينقص أبداً، وأن إيمانه بها كان قوياً راسخاً، ولا شيء تمكن مِن زعزعته وزعزعة ثقته فِي عدالة الخالق أو مِن وُثُوقه مِن عطف بلاده القادم لا محالة، وأن بلاده – ومهما طال الزمـن – لا يمكن لها أن تنسى أبناءها، وأنها ستصبح يوماً كمَا تمناها طوال حياته، مردداً قصيدة الشّاعر علي الرقيعي الّتي يقول بعض مِن أبياتها:
يا جنة الغرباء، يا مثوى طفولتنا الجميلة
ماذا.. وخيرك يا بخيلة
بددته للريح.. خيرك يا بخيلة
يا من يعذب حبها قلبي وما بيدي حيله
ولعل يا بلد الهموم، لعل ضرعك فيه قطرة
لأبل هذا القلب كي أشفي غليله
ما زلت أؤمن أن في عينيك رحمة
مهما قسوت.. ففي دمي تجرى أمومتك الجميلة
وَخِتاماً، رحل صاحب المواقف الصلبة والمساهمات الكبيرة، والّذِي أفنى عمره بين الورق والقلم، وترك فاضل المسعودي مقالات كثيرة جدَّاً بمثابة الكنوز، حتَّى وإن لم يخلف وراءه كتاباً مطبوعاً، ويقيني أن رفاقه الّذِين كانوا أوفياء معه طوال حياته ومشواره النضالي، سيعملون حتماً على إخراج كنوزه إِلى النور فِي كتاب أو كتب مطبوعة.
رحم الله فاضل المسعودي وكُلِّ الرجال الشرفاء النبلاء أمثاله، وجعل الجنّـة دارهم ومأواهم.. ورحم الله بناة ليبَيا ورجالها المخلصين الأفذاذ، ورموزها العظماء الكبّار وَفِي مقدمتهم المَلِك الصَالح إدْريْس السّنُوسي الأب المؤسس لدولة ليبَيا الحديثة.. ورحم الله ليبيا وقيض لها مَنْ يشرع فِي بنائها وتعميرها، ويعيد لها مجدها وأمجادها، ويحفظ لها مقامها الرَّفيع فِي التاريخ.
بقلم: شُكْري السنكي
الأحد الموافق 11 فبراير 2018م
الصور المرفقة:
الصورة الأولى: فاضل المسعودي
الصورة الثانيّة: فاضل المسعودي فِي شبابه
الصورة الثالثة: صورة جماعيّة أمام مبنى بلدية طرابلس العام 1961م أثناء استقبال رئيس بلدية طرابلس للقادة الجزائريين المُفرج عنهم مِن طرف شارل ديغول (1890م – 9 نوفمبر 1970م) رئيس الجمهورية الفرنسيّة مِن 1959م إِلى 28 أبريل 1969م. والصورة مِن اليمين إِلى اليسار: ونيس القذّافي وزير الخارِجٍيّة، فاضل بِن زكري والي طرابلس، أحمَد بِن بلة أحد قادة جبهة التَّحرير وأوَّل رؤساء الجزائر بعْد الاستقلال، محمّد خيضر سياسي وأحد قادة الثورة الجزائريّة، حسين آيت أحمَد سياسي وأحد قادة الثورة الجزائريّة، مُصْطفى بِن زكري عميد بلدية طرابلسي، أحمَد بودا ممثل جبهة التَّحرير الجزائريّة وخلفة السّيِّد الغزالــي.
الصورة الرابعـة: يظهر فِي الصورة مِن طرف اليسار الأستاذ فاضل المسعودي ، وفِي الوسط الأستاذ فتحي بِن خليفة الّذِي كان منسقاً لملتقى أمازيغ ليَبيا الثّاني فِي يوليو 2007م.
الصورة الخامسة: صورة تجمع فاضل المسعودي والرَّاحل السّنُوسي كويدير فِي برلين العَام 2015م.