علي المنصوري
كالقمر، يطل على الدنيا كل نهاية شهر..
أمّا أنا فكنت أراه كل يومٍ عدا الجمعة
فهي كذلك، تمرّ بِبيتي لنذهب سويّاً إلى المدرسة.. بحُكمِ مسكنها القريب من القلب قبل البيت..
كنتُ كثيراً ما أحاول التهرب من الذهاب للمدرسة.. أتأخر في النهوض بحجة المرض خوفاً من التسميع. إلى أن تستخدم أمي مقولتها السّحريّة فتقول: نوض يا منجوه.. زهور تراجي فيك برا.
ما إن أسمع اسمها حتى أنهض وأخرج إليها.. أقف بجانبها فيتلاشى الخوف من “أبلة نجاة وتسميعها”..
غريبٌ أنّي لم أكره يوماً ما تفعله بي أمام والدتي … عندما تخبرها بأعمال الشّغب التي أفعلها في الفصل وكثرة سرحاني..
هزيل البنيةِ، قصير القامةِ، ضعيفَ المظهرِ.. ويفوقني الجميع حجماً.. لكنّ وجودها بجانبي يمدّني بجَهدٍ أتغلّبُ بهِ على غيري.. كنتُ كمن يتحوّلُ إلى مُقاتلٍ عنيفٍ إن هزِئَ بي أحدُهم تحتَ ناظِريها..
تلكَ السمراءُ.. بعينيها الواسعتينِ وشعرٍها المجعّد”أكرد”.. دائماً ما كان مرتباً جميلاً بضفيرتين..
لم تضع رائحةً تميز عرقها كمعظمِ الفتيات السودانيات.. الا انها في حياتي كالعِطرِ.. تُضفي رائحةً زكيةً على الأرجاءِ من حولي..
في يومٍ، جاءت “أبلة الجو السّمح” التي أطلقنا عليها هذا اللقب لأنها كثيراً ما تخرجنا للفُسحةِ بفناء المدرسة فنلعب الكرة، أو تقوم بأعمالٍ ترفيهيةٍ بعيداً عن ملل الدراسة وصراخ “الأبلات”..
أخبرتنا أبلة الجو السمح بأن يومَ غدٍ سنذهب في رحلة إلى البوسكو..
أخفى فمي ابتسامته في قلبي الذي فرِحَ.. كان ذلك يعني مزيداً من الوقتِ ومزيداً من الخَطوِ معها، أكثر من عددِ الخطوات بين منزلي والمدرسة.. كان يوماً استثنائياً..
انقسم الطّلاب في مجموعاتٍ، كل شخصٍ مع المُقرّبِ لهُ من الأصدقاء للاتفاق على “الخليطة”..
رأيتُ أنّه الوقتُ المناسبُ لأخبرها بكل شيءٍ.. لماذا أهديها الحلوى وشوكولاتة الستار والماندولين.. لماذا سأهديها غداً البسبوسة من أطراف الطاجين الذي عادة ما يكون أكثر استواءاً من منتصفه..
سأخبرها بعدد المرات التي أتيتها بالعصير المثلج مسروقاً من محل “سي رمضان الزياني”..
سأخبرها بكل شيء غداً.. علّها تَعدِلُ عن قرارها بالرجوع إلى وطنها “السودان” بعد انتهاء السنة الدراسية، معتقداً أنه قرارها..
دونتُ كل ذلك في ورقةٍ خبأتها لأجل الغدِ..
لم تأتِ هي للرحلةِ.. لم تملِك ثمنَ الحافلة..
لم أبُح أنا لها.. لا في الرحلة ولا بعدها..
البارحةَ كنتُ في الصيدلية رأيتُ شبيهةً لها.. فخطر ببالي كلّ ما أردتُ البوح به منذُ سنوات، لم تغادر زهور.. لم تذهب إلى وطنها.. ولكني لازلتُ لا أستطيعُ إخبارها بشيءٍ و لا يزال ذاك البوح غصة في قلبي.. فهي بين يدي الله..