دليل المؤلفين العرب الليبيين) وهو أهم منجز لقطاع الثقافة في ليبيا على مدى نصف قرن
- كثيرون حاولوا وضع العصا في دواليب مشروعي الثقافي لكني ماضٍ فيه – المثقف هو الذي تنعكس قراءاته ومعارفه في ممارساته العملية الحياتية
- لكن بلادنا العزيزة (ليبيا) مادة (خام) كما يقولون للبحث ثمة قضايا وموضوعات كثيرة تحتاج للدراسة
- قيمة المثقف في رأيي في مدى ارتباطه بالشأن الوطني
- كسبنا الريادة في مجال الصحافة الأدبية العربية و(الأسبوع الثقافي)
يقول ” كنت حريصاً على التواصل بشكل مباشر مع كل كاتب إما بالتواصل الشخصي أو عبر الهاتف أو عبر البريد الإلكتروني أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي … لأعبر لكل كاتب عن تقديري له واحترامي لكيانه ولأشعره بأهمية سيرته لدي التي ستكون مصدراً متاحاً للباحثين مستقبلاً للتعرف على سيرته الحياتية وتكوينه العلمي ومجالات عطائه المعرفي والثقافي ونتاجه العلمي ” عبدالله سالم مليطان اسم اقترن بالثقافة والأدب فامتزجت تفاصيله بهذا العالم المخملي وصدق عليه القول إن الثقافة التي لا تمتزج مع روحك هشة ، فكانت كل تفاصيله تحمل الهم الفكري والثقافي صاحب رأي واضح منحاز لليبيا ولعلو شأنها ضيف استثنائي تركنا له براح الحديث فأدهشنا وأثرى صفحات فسانيا.
حوار :سالم الحريك.
لديك مشروع تنوي من خلاله خدمة التراث الوطني، وأنت مخلص لهذا المشروع وتكرس له الكثير من الوقت والجهد. من أين يستمد عبدالله مليطان تلك القوة والإصرار لمواصلة هذا المشروع ؟
سر القوة والإصرار …عشقي لهذا الوطن وهذا ما يمكنني أن أعبر به عن محبتي لوطني العزيز ليبيا… وأي منجز لا يمكن أن يكتب له النجاح ما لم يكن منطلقه أساساً عشق حقيقي للعمل.. ومن ناحية أخرى هو محاولة لسد الفراغ الناشئ عن عدم وجود مشروع مؤسساتي وطني ينهض بهذا المشروع…هناك محاولات فردية اعتنت ببعض الجوانب التوثيقية وهي مهمة لا شك، وهناك جهد كبير قامت به دار الكتب خلال السبعينات ممثلا في (دليل المؤلفين العرب الليبيين) وهو أهم منجز لقطاع الثقافة في ليبيا على مدى نصف قرن مضى قام به فريق من الباحثين برئاسة الطاهر الشويهدي رحمه الله وسعت دار الكتب لإنجاز عمل مماثل من بعد رغم كثير من المآخذ عليه لكن لا يمكن لي تجاوزه أو التقليل من قيمته ولعل القصور راجع لعدم توفر الدعم اللازم له من قبل الدولة إلا أنه يبقى رغم كل ما اعتراه من نقص جهد جدير بالتقدير والإشادة .
أعتقد لو توفر الدعم الكبير لدار الكتب مع فريق جاد من الباحثين لكفتني هذا العناء والوقت الذي بذلته ولا زلت أبذله في هذا المشروع .. وإن كنت أرى أنه مهما توفرت الإمكانيات فإن حرص الباحث العاشق لعمله هو أكبر من أداء الموظف خاصة عندما يتعامل مع الروتين الإداري ويتمسك بساعات العمل.
مثل هذا المشروع التوثيقي يتطلب إرادة وعزيمة باحثا جادا لا موظفا تحكمه لوائح عقيمة وروتين إداري معقد … لذلك أقول إن العشق الحقيقي للعمل والمثابرة والعمل بعقلية الباحث تظل أكبر من كل الإمكانيات وهذا سر الصمود من أجل إنجاز المشروع رغم كل الصعاب التي تعترض إنجازه سواء من بعض المؤلفين الذين كانوا يسخرون من فكرة المشروع أو ممن لا يكترثون أصلاً بمطلبي في الحصول على سيرهم وكتابات البعض المحبطة والمستهجنة للجهد الذي أقوم به….تصور كاتب مثل محمد أحمد وريث مثلاً كتب عديد المقالات التي حاول من خلالها الاستهانة بهذا المشروع وحتى وهو يكتب في قضايا أدبية لا علاقة لها بالعمل المعجمي يحاول الزج بالمعجم في ثنايا ما يكتب بقصد التقليل من قيمته وهناك شاعر آخر اسمه محمد الكيش كتب مقالا في إحدى الصحف في سنوات ماضية واصفا المعجم بـ(الرداءة) وأنا أعرف سبب قوله هذا ولا داع لذكره وآخر اسمه حسين عقيلة الذي استعار زاوية أحد الكتبة ليصفها بـ(الملاجم) وآخر في صحيفة (الشط) وصفها بأنها أعمال انتقائية… أحد الكتبة وقد ترأس رابطة الأدباء والكتاب لسنوات طويلة كان ولا يزال رغم تقديري لسنه لا يفوت فرصة للسخرية بالمشروع كلما ذكر أمامه هذا المشروع حتى أنه كتب ذات يوم عن أحد الكتب عبر زاوية كان يكتبها بشكل أسبوعي في إحدى الصحف وأثناء عرضه لذلك الكتاب همز ولمز للمعجم كعادته المعروفة وهي الدس ما بين السطور وأخرى همشت في إحدى كتبها بعبارة (الذي أشار معده) خلال حديثها عن أحد المعاجم متعمدة ألا تذكر اسمي معبرة عن عقدها النفسية التي تعاني منها مبرزة حالة الغرور التي تعيشها ..كل هذه المحبطات زادت من إصراري على الإنجاز مستأنسا بقول المتنبي (وما علي ألا تفهم….) وهنا أذكر بتقدير وإجلال ما كتبه الكبار عن المشروع وفي طليعتهم الراحلون الكبار خليفة التليسي وعلي مصطفى المصراتي وعلي صدقي عبدالقادر وكامل عراب… وهنا يمكنك أن تدرك الفرق بين الكتاب الحقيقيين المدركين للمعاناة ولأهمية المشروع والكتبة الذين تحكمهم نوازعهم النفسية وعقدهم الذاتية.
ما هي أبرز الصعوبات التي يعانيها عبدالله مليطان في رصد وتتبع المنجز الليبي في مجال الكتاب؟
أولاً لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة ومهمة للغاية وهو أنني لم أتواصل مع أي كاتب أو كاتبة عن طريق وسيط … كنت حريصاً على التواصل بشكل مباشر مع كل كاتب إما بالتواصل الشخصي أو عبر الهاتف أو عبر البريد الإلكتروني أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي … لأعبر لكل كاتب عن تقديري له واحترامي لكيانه ولأشعره بأهمية سيرته لدي التي ستكون مصدراً متاحاً للباحثين مستقبلاً للتعرف على سيرته الحياتية وتكوينه العلمي ومجالات عطائه المعرفي والثقافي ونتاجه العلمي… هذا النهج الذي ألزمت به نفسي وارتأيته لعملي جعلني أقف على طبائع بعض البشر واختلاف مشاربهم وأهوائهم ولو عممت بعض ما توصلت إليه على الجميع لعدلت بشكل نهائي عن مشروعي … ما واجهته من مصاعب إزاء هذا العمل لا يمكن لك أن تصدقه مطلقاً ..والله العظيم وأعيد هذا القسم ألف مرة لولا إيماني بمشروعي وإحساسي بأهميته خدمة لوطني لصرفت النظر جملة وتفصيلاً عن أي شيء يتصل بالكِتَاب والكُتّاب (مع إيماني بعدم التعميم وتقديري البالغ لعدد كبير من كُتاب ليبيا الذين تتلمذت على أيديهم واستفدت منهم) …
سأكون معك صريحاً واضحاً في ذكر هذه الصعوبات حتى يدرك متصفح المشروع بعد إنجازه حجم المعاناة التي عشتها طوال هذه السنوات.. لذلك اسمح لي بأن أضعك أمام كل تلك المصاعب مما يمكن أن تذكر لأن بعضها لا يمكنك تصديقه ولو ذكرتها سوف أكون مضطراً لذكر أسماء وهو ما لا يسمح المجال به … من هذه المصاعب عدم اكتراث البعض بالمشروع وهم أصناف…بعض هؤلاء لا يلقي أي أهمية لتواصلي معه يرى رسالتي ويتجاوزها. وأعود وأرسل له رسالة ثانية وثالثة ولا يرد … والبعض الآخر يرد ويظل يماطل في الإجابة عن أسئلتي لفترة تصل أحيانا لسنتين وأكثر وأنا (لا أمل)..نوع آخر يجيب بعد أشهر ويرسل معلوماته ناقصة كأن يذكر مؤهلاته دون ذكر المؤسسة العلمية التي تحصل منها على المؤهل أو دون ذكر تاريخ حصوله عليه أو يذكر لك أن لديه مجموعة من الكتب دون أن يذكر عناوينها وإن ذكرها لا يذكر الدار التي نشرتها وإن ذكرها لا يذكر سنة النشر فأعود إليه وأسأل عن كل ذلك فيجيبك بعد أشهر وأحيانا بعد عام (ولا أمل)…نوع آخر من تلك الصعاب تدخلني في جدال طويل حول أهمية المشروع أساساً ويؤسفني ذلك جداً عندما يكون المجادل من أساتذة العلوم الإنسانية وخاصة إذا كان من المختصين في الآداب ممن يفترض أنه على معرفة بالأعمال المماثلة كأعلام الزركلي ومعجم المؤلفين لكحالة فأدخل في حوار معه عن أهمية أن يكتب سيرته بنفسه حتى لا يأتي من يكتبها من بعده ولا تكون كما يجب أن تكون ومع ذلك – إذا شاء الله واقتنع – يرسلها ناقصة فأعود إليه مرة بل مرات حتى تكتمل (ولا أمل) هناك صنف آخر يقول لك إنني لا أريد أن أكون في معجمك وآخر يقول لك أنت تخرب الثقافة لأنك تضع الجميع في خانة الكُتاب فأقول له إنني أحتكم إلى معيار واضح هو من ألف كتابا ولا يعنيني ما في الكتاب ولا قيمته بل إن مهمتي رصد الواقع ولا يقتنع وهو ما اضطرني إلى تذكيره بأن أعلام (الزركلي) أورد من بين أعلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم و(أبوجهل) أيضا…آخر يقول لي أنا لا أريد أن أكون في جملة القطيع (وأعتذر بشدة من الجميع)…أنماط عجيبة غريبة كشفت عن حقيقتها من خلال هذا المشروع لم أكن أتصور أن أجدها ولكن هذا هو الواقع …وهنا لا بد أن أشيد بالسادة الكرام الذين يقدسون العمل ويرون أهميته واستجابوا مشكورين لمطلبي بسرعة وبدقة عالية في كتابة المطلوب بمسؤولية بل وبعرض مساعدتهم في التواصل مع غيرهم حرصاً على إنجاز العمل …ومن الطرافة أن أساتذة جامعيين من مواليد الثمانينات يقول لي بكل صراحة سامحني أنا لست مقتنعاً بالإيميل (البريد الإلكتروني) إذا أردت أعطني ما تريد مكتوبا أجيلك مكتوبا على الورق… أعلم أنك لن تصدق ذلك لكن والله هذا حدث فعلاً.
في ذات السياق (ليبيا مدخل إلى المصادر والمراجع) عنوان لعمل توثيقي ضخم تقول إنه أهم عمل ستقدمه في حياتك. ماهي خطتك لإنجاز هذا العمل الضخم؟
وهل ستضطر ربما للتخلي عن بعض مسؤولياتك ومهامك الأخرى للتفرغ لإنجازه؟
ليبيا مدخل إلى المصادر والمراجع …عمل مؤسسي كبير وضخم يحتاج إلى جهد كبير وإنجازه يتطلب وقتاً طويلا لكنني أملك من الإرادة _ ولله الحمد _ ما أستطيع إنجازه وإن كنت لا أستطيع اختصار الوقت الذي يتطلبه كما أن – الأعمار بيد الله – فقد لا يكون في العمر بقية لذلك لكنه إذا ما أنجز سيكون خير معين للباحثين في الشأن الليبي في كل المجالات…سييسر للباحث معرفة المصادر والمراجع التي تخص الشأن الليبي بالعربية وما ترجم إليها وكذا المراجع التي يمكن للباحث الاستئناس بها في أبحاثة ودراساته حيث ستضع أمامه فرصة الاطلاع بشكل مباشر عن محتويات تلك المصادر والمراجع من خلال استعراض فهارسها إلى جانب ذلك ستمكن الباحثين من التقاط موضوعات للدراسة إذا ما اطلع على محتوى ما تضمنه هذا الكتاب بشكل كامل … سيكون العمل على شكل مداخل يتناول كل مدخل قائمة بالمصادر والمراجع الأولية ثم يحيله إلى التفاصيل التي تغطي كل جوانب الشأن الذي ينبري للبحث فيه…أقولها بكل الفخر إنه العمل غير المسبوق في الثقافة الليبية والعربية أيضاً…ولو شاء الله أن يصدر بالشكل الذي خططت له سيشعرني بكثير من الرضا أنني ساهمت فعلا في خدمة وطني .
ترى بأن المثقف بشكل عام تتحدد قيمته وأهميته بناء على ما يقدمه لوطنه ولشعبه بالدرجة الأولى. في هذا السياق تحديدا ماهي يا شيخ البوصلة التي نستطيع من خلالها تحديد قيمة وأهمية هذا المثقف ؟
نبدأ من آخر كلمة في سؤالك (المثقف) لنجيب عن السؤال من هو المثقف؟ المثقف هو الذي تنعكس قراءاته ومعارفه في ممارساته العملية الحياتية وهنا تكمن أهمية هذا المثقف وقيمته الحقيقية فإن كانت قراءاته وتعليمه لم تنعكس بشكل مباشر على سلوكه فهو أبعد ما يكون عن وصفه بالمثقف … الثقافة سلوك يعكس حصيلة ما قرأه الإنسان وفهمه واستوعبه…والإنسان – أي إنسان – ما لم يجد فيه أهله وأقاربه خيراً لا خير فيه (خيركم خيركم لأهله) كما في الأثر …عليه فإن المثقف ما لم يسخر حصيلة قراءته ومعارفه لوطنه لا قيمة لديه في نظري ولا أهمية لما لديه من معرفة ما لم تكن موظفة لخدمة وطنه حتى كُتاب الشعر والقصة والرواية والمسرح التي هي كتابات إبداعية في تصوري ما لم تعنى بمعالجة قضايا الوطن وهموم المواطن ومعاناته وتتغنى بأمجاده لا قيمة لها…قيمة المثقف في رأيي في مدى ارتباطه بالشأن الوطني حتى في مجال العمل البحثي التطبيقى أرى أن البحوث والدراسات العلمية التي لا تسخر للشأن الوطني وتطرحها للمعالجة العلمية تبقى لا قيمة ولا أهمية لها لذلك أسعى حتى في نطاق الجامعة إلى توجيه الطلاب الباحثين إلى الاهتمام بدراسة الموضوعات المحلية وهذا لا يعني أن ما يكتب في غير الشأن المحلي لا قيمة ولا أهمية له لكن بلادنا العزيزة (ليبيا) مادة (خام) كما يقولون للبحث ثمة قضايا وموضوعات كثيرة تحتاج للدراسة والبحث الجاد … الذين يوفدون للخارج للدراسة خاصة في مجال العلوم الإنسانية ينبغي أن تتجه دراساتهم وأطروحاتهم العلمية لتناول الشأن الليبي وخاصة في مجال التاريخ فهناك الكثير من القواسم المشتركة التي تحتاج للدراسات المقارنة وهناك كمّ من المخطوطات والوثائق المودعة بأرشيف الدول الشقيقة والصديقة التي يمكن دراستها والاستفادة منها .في الأدب هناك مجالات واسعة للبحث المقارن وهنا أسجل ببالغ التقدير والإعجاب لكثير من الباحثين من طلاب الدراسات العليا الذين اشتغلوا على الشأن الليبي مستفيدين من المكتبات الجامعية في البلدان التي أوفدوا لها وخاصة في مجال القانون هناك دراسات عديدة طبعت ونشرت قارنوا فيها بين القوانين والتشريعات الليبية وقوانين وتشريعات تلك البلدان وهي أعمال جليلة لابد من الإشادة بها وتقدير أصحابها.
“التفكير الأسطوري في الإسرائيليات” عنوان لرسالة ماجستير لك تكشف خلالها عن تغلغل الثقافة اليهودية في التراث الثقافي العربي في التفسير والتاريخ وتطرح سبل مواجهتها. لخص لنا أهم هذه السبل لمواجهة هذا التغلغل، ومن وجهة نظرك، هل توجد أي جهود أكاديمية فاعلة اليوم لتقديم تفسيرات واقعية، بعيدة عن التفكير الأسطوري الدخيل؟
هذا الكتاب كان في أساسه رسالة علمية قدمتها لنيل درجة الماجستير من جامعة طرابلس (الفاتح سابقا) بإشراف أستاذي الجليل علي فهمي خشيم وأثناء المناقشة كان للدكتور محمد بالحاج رأيه المخالف لما كتبته وطلب أن أنشره ضمن الكتاب ونشرته بالفعل ضمن الطبعة الأولى من الكتاب إلا أن الناشر للطبعة الثانية حذفه… ومواجهة الدخيل على الفكر الإسلامي تقتضي الموضوعية والتزام جانب النقد الذاتي بكل شجاعة من خلال إفساح المجال بكل حرية للرأي المخالف ومناقشته بمنطق العلم بعيداً عن التعصب والتجرد الكامل من الاستسلام للسائد…إن مواجهة تغلغل الأفكار الدخيلة في الفكر الإسلامي تتطلب قراءة متأنية للفكر الإسلامي بإعمال العقل ومناقشة الأفكار بموضوعية وطرح كل فكرة بشكل كامل والبحث عن جذورها واستقراء واقعها ونقد مضامينها وأفكارها برؤى ووعي بدل الركون إلى الخرافة والتمسك والتسليم بما ورثناه من ركام….
نحن نحتاج إلى مؤسسات بحثية عالية الجودة تؤسس على معرفة حقيقية بالتراث ووعي علمي بضرورة غربلة كتب التراث من الخرافة التي ترعرعت في تراثنا نتيجة تعصبنا لها وحجب عقولنا عن إدراك الحقيقة… هذا بالطبع لا يلغي الجهود الفردية التي قام بها مجموعة من الدارسين والنقاد للتصدي لمحاولات التغلغل خاصة في إطار مواجهة التغلغل اليهودي في كتب التاريخ والتفسير مما اصطلح عليه بـ(الإسرائيليات) التي راجت منذ صدر الإسلام من خلال ما كان يبثه كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من أحبار اليهود.. وهنا أذكر على سبيل المثال محمد حسين الذهبي الذي أعد كتابا عن الإسرائيليات في كتب التفسير ورمزي نعناعة ومحمد أبوشهبة وغيرهم من الباحثين الشباب الذين تناولوا في بعض كتبهم دراسة بعض تلك الخرافات والأوهام ولابد أن أشير هنا إلى مقالة مهمة كتبها الراحل الكبير علي مصطفى المصراتي في صحيفة (طرابلس الغرب) منتصف الخمسينات دعا من خلالها إلى غربلة التراث من الدخيل من الإسرائيليات وغيرها من أنماط التغلغل في الثقافة العربية.
تذكر بأن مدرسة قورينا الفلسفية، كانت رائدة في مجال الفلسفة وتمتد لفترة ما قبل ميلاد المسيح وكانت وجهة للكثيرين بما فيهم من أثينا بلد كبار الفلاسفة. من خلال رحلتك الفكرية والتوثيقية للمنجز الليبي في الكتاب تحديدا، هل أطلعتنا بشكل خاص عن التاريخ الفلسفي الليببي، مرورًا إلى واقعنا اليوم؟
معلوم أن أثينا بلد الفلسفة والفلاسفة في العالم القديم وأن أكبر فلاسفة العالم هم أفلاطون وسقراط وأرسطو لكن ما هو معلوم لدى القليل فقط هو أن مدرسة قورينا الفلسفية كانت القبلة التي يتجه إليها الباحثون عن الاستزادة في دراسة الفلسفة قبل ميلاد المسيح هذه الحقيقة التي غابت عن الكثيرين حتى من بعض المختصين في دراسة الفلسفة …كثيرون لا يعرفون الفيلسوفة الليبية (آريتي) التي تتلمذت على يدي والدها (أرستبوس القوريني) لتضطلع بتدريس الفلسفة في قورينا أكثر من ثلاثين عاماً ويتخرج على يديها العديد من التلاميذ الذين تولوا التدريس من بعدها. ومن لا يعرف فلسفه النزعات الغريزية (اللذة) التي كانت تدرس في قورينا ويمكن الاطلاع في ذلك على كتاب الفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوي (الفلسفة القورينائية أو مذهب اللذة) الذي صدر عام 1969م والذي كشف من خلاله عن حقيقة وتاريخ هذا المذهب الفلسفي القوريني إلى جانب كتابة الذي صدر عام 1971م في جزأين بعنوان (تاريخ الفلسفة في ليبيا) الذي أرخ من خلاله للفلسفة في ليبيا مبرزا دور قورينا في علم الفلسفة قبيل ميلاد السيد المسيح عليه السلام…هذه الكتب للأسف لم تلق اهتمام كثير من الليبيين الذين سيكتشفون من خلالها عمق الاهتمام العلمي بعلوم الفلسفة في مدرسة قورينا ليتنا نلتفت إلى هذا التاريخ ونقرأ ما كتبه بدوي عن تاريخنا في هذا المجال ونبتلى بقيادة رشيدة تعيد لقورينا مجدها الفلسفي ونحيي من جديد مدرسة قورينا لتكون منارة من منارات العلم في عالمنا المعاصر كما كانت قبل الميلاد قبلة للباحثين في مجال الفلسفة…فمتى ترى نصحوا من سباتنا العميق ونستفيد من ثرواتنا فيما هو أبقى بدل أن تضيع في وهم الأمجاد والبطولات الزائفة؟.
كما تقول، في بعض الفترات تولى شؤون الوزارة مثقفون حقيقيون، تعاملوا مع الكُتاب والمثقفين بتواضع، فالتف حولهم هؤلاء المثقفون. حدثنا عن أبرز هذه الفترات التي تستدعيها في ذاكرتك، وما أهم مُنجزاتها؟
دعني هنا أتكلم بكل صراحة وموضوعية بعيداً عن الواقع السياسي وإن كانت مناحي الحياة منظومة متكاملة لا يمكن فصل جانب عن آخر فالحياة الثقافية تربط بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وما يتخللها من متغيرات تنعكس على المشهد الثقافي وهكذا هي الحياة عامة …منذ تأسست دولة ليبيا الحديثة مع مطلع الخمسينات كانت هناك وزارة معنية بالإعلام والثقافة وقد مرت بتسميات عديدة إلى أن أرست في المراحل الأخيرة عن وزارة للإعلام وأخرى للثقافة وقد تعاقب على هذه الوزارة مجموعة من الأسماء بعضها كان من الكُتاب والإعلاميين والبعض الآخر لم يكن له علاقة بالمشهد الثقافي إلا أن ظروفاً أتت به لتولي هذه المهمة …وهنا أريد أن أؤكد بأنني أخالف الرأي الذي يقول إن وزارة الثقافة ينبغي أن يتولاها كاتب أو فنان …نعم لو تولى الثقافة كاتب أو فنان جيد…لكن الوزارة موضوع آخر … الوزارة هي إدارة العملية الثقافية وهي فن وعلم قد يفلح فيها من ليس من الكُتاب أو الفنانين بشرط أن يكون مثقفاً عارفاً بتفاصيل العملية الثقافية يعرف الكُتاب ويفهم ما يكتبون ويعرف الفنانين وما يبدعون ويستطيع بفهمه وإدراكه أن يميز بين هذا وذاك من حيث القيمة والعطاء كما ينبغي أن يكون مدركاً لواقع الثقافة عارفاً بالموروث الثقافي الليبي وهذه كلها تعتمد على القراءة والمتابعة فهناك من هم مختصون في مجالات علمية تطبيقية لكنهم على فهم ووعي بالمشهد الثقافي الليبي ويعرفون تفاصيله جيداً ولعل بعض هؤلاء أكثر إدراكا من كثير ممن هم محسوبون على الوسط الثقافي من كُتاب وفنانين… من هؤلاء من ليسوا من الكُتاب اجتهدوا في الاستعانة بمستشارين أكفاء فاستطاعوا باستشارتهم أن ينجزوا ويتركوا بصمتهم خلافاً لمن كانوا مكتفين بما لديهم أو استعانوا بمن لا علاقة له بالثقافة وأحاطوا أنفسهم بمن لا يرون في وزارة الثقافة سوى مغنم لهم… وهنا أعود لسؤالك عن الذين تولوا الثقافة وشكل وجودهم على رأس الوزارة تحولاً لافتا في المشهد الثقافي الليبي…على سبيل المثال الراحل الكبير الأستاذ خليفة التليسي (وهو من هو؟) كاتباً ومترجما وشاعراً…في فترة توليه لوزارة الإعلام والثقافة تأسست وكالة الأنباء الليبية وصدرت مجلة الرواد وتأسست اللجنة العليا لرعاية الفنون والآداب التي نشرت أعمالاً في غاية الأهمية في مختلف فروع المعرفة مما جعلت الكْتاب يلتفون حول الوزارة ويسهمون في برامجها…في تولي السيد صالح بويصير لوزارة الثقافة عين الأديب الكبير علي فهمي خشيم وكيلاً لوزارة الثقافة وكانت صحيفة (الأسبوع الثقافي) أبرز منجزات تلك المرحلة ومن يستطيع أن يتجاهل أهمية (الأسبوع الثقافي) في المشهد الثقافي الليبي والعربي تلك الصحيفة الأسبوعية الرائدة في المشهد الثقافي العربي التي احتضنت مئات الأقلام الليبية والعربية التي أضحت علامات بارزة في الثقافة الليبية والعربية وعبر صفحاتها _أي الأسبوع الثقافي _ نشرت كتب عديدة لعدد من الكتاب الليبيين في مختلف المجالات على حلقات أسبوعية وبفضلها كان الكُتاب على صلة وثيقة بوزارة الثقافة يومها مشاركين بمقالاتهم ومساهمين في مناشطها وفاعلياتها الثقافية والفكرية …في فترة تولي الشاعرة فوزية شلابي لوزارة الإعلام والثقافة شهدت الساحة الثقافية الليبية ازدهاراً لافتاً من حيث الندوات الثقافة والفكرية وازداد حجم المشاركات الليبية في المحافل الأدبية العربية مما دفع بالمثقفين للالتفاف حول الوزارة والمساهمة في برامجها ….في فترة تولي الفيلسوف الراحل رجب أبودبوس شهدت الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع إحدى أفرع الوزارة اهتماماً كبيراً من حيث الدفع بحركة النشر التي دفعت بكثير من الكتاب الليبيين لنشر إنتاجهم الذي شكل حضورا هاماً في معارض الكتاب العربية وكان سببا في التفاف الكُتاب حول الوزارة…..في قترة تولي الشاعر نوري الحميدي لوزارة الثقافة يشهد الله وكنت قريباً من دائرة عمله كم شجع الكُتاب والفنانين على نشر نتاجهم الثقافي والفني إلى جانب المهرجانات والمؤتمرات والملتقيات الثقافية العديدة التي شكلت مناخاً ملائما لإسهام كثير من الكُتاب والفنانين في المشهد الثقافي محلياً وعربياً… وحين تولى الأستاذ الحبيب الأمين وزارة الثقافة كان للكتاب الليبي حضوره البارز حيث نشرت في فترة توليه الوزارة مئات الكتب وشهدت أروقة الثقافة في ليبيا العديد من المناشط الثقافية والفنية ودعم المراكز الثقافية في كل المدن الليبية وافتتح عددا كبير من المراكز الجديدة مما جعل كثيرا من الكُتاب يلتفون حول الوزارة ويسهمون في برامجها إلى أن جاء من لا يفرق بين مختار الأسود ومختار الصّحاح حسب رأي صاحب القلم الصحفي المتميز (مع تقديري للصّحاح وللراحل الفنان مختار الأسود) الذي بسببه انفض الكُتاب عن الوزارة ليتحلق من حولها الكتبة والمطبلين الذين يرون في وزارة الثقافة مغنماً لا غير ولم تكن تعنيهم إلا ما يحققون من مكاسب وصفقات وهمية وعقود انتفاع لا غير.
للموروث الثقافي والأدبي والصحفي الليبي ريادة وأسبقية، ولكن قلة التوثيق والحفاظ على هذا التراكم يضيع حق أولئك الروًاد.
ماهي الآلية والطريقة التي تراها مناسبة للحفاظ على تلك الريادة والأسبقية، وتعزيزها أكاديميا وإعلاميا على المستوى العربي؟
يبدو لي أن ثمة لعنة تلاحقنا فكما أشرت سابقاً إلى مدرسة قورينا الفلسفية وما آلت إليه البلاد حين ألغيت مادة الفلسفة من المناهج التعليمية الأولية لتتحول في الجامعات إلى مادة (التفسير) لذلك أرى لو أردنا أن نضع آلية عملية للحفاظ على تلك الريادة لأنشأنا أكاديمية للفلسفة على أنقاض مدرسة قورينا تغطي كل التخصصات الفلسفية وبكل لغات العالم وحافظنا على هذا الإرث العلمي الكبير … ولو أردنا أن نحافظ على تاريخنا الصحفي لأبقينا على اسم (طرابلس الغرب) تلك الصحيفة التي سبقت (الأهرام) المصرية بسنوات وغيّرنا من سياستها ومنهجها وفق سياسات كل مرحلة دون المساس باسمها وترويستها نكون قد حافظنا على إرثنا الصحفي …ما ينطبق على صحيفة (طرابلس الغرب) ينطبق على صحيفة (الأسبوع الثقافي) أيضاً تلك الصحيفة الرائدة في تاريخ الصحافة الثقافية العربية الأسبوعية لو حافظنا على ذات الاسم وواصلنا إصدارها معنية بالثقافة لكنا كسبنا الريادة في مجال الصحافة الأدبية العربية و(الأسبوع الثقافي) كما تعلم سبق (أخبار الأدب) المصرية بعشرين عاما وكانت حاضنة كثير من الكُتاب العرب من مختلف أقطار وطننا العربي …لو أردنا أن نصحح تلك الأخطاء لابد علينا من إعادة إصدار (طرابلس الغرب) كصحيفة يومية وإعادة (الأسبوع الثقافي) كصحيفة أسبوعية وإعادة تألق مدرسة قورينا الفلسفية لنعيد بها واجهتنا العلمية والصحفية التي كانت قبلة لكل المثقفين وطلاب الفلسفة في كل البقاع….كما لابد من توجيه طلابنا للبحث العلمي الجاد عن تراثنا المعرفي وإرثنا الصحفي حتى تعرف الأجيال المعاصرة كيف كانت ليبيا لنعمق إحساسنا بهويتنا الوطنية التي بسبب عدم معرفتنا بقيمها ومقوماتها صرنا كما هو الحال اليوم.