عن منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صدرت الطبعة الأولى، عام 2017، من كتاب “التصوف الإسلامي: نحو رؤية وسطية” للناقد والمفكر المغربي الدكتور خالد التوزاني، يركز فيه على منهج العِرفان الصوفي في إصلاح الباطن ليفيض على الظاهر بالخير والنقاء، خاصة في ظل تزايد الانفلات الأخلاقي والهدر القيمي وانتهاك الحرمات، وعلى رأسها قداسة الإنسان الذي أصبح دمه مستباحا، ومن ثمَّ، لا يوجد متّسع من الوقت في نظر مؤلف هذا الكتاب لتأخير العمل التزكوي للنفوس وبناء برامج للتنمية البشرية تقوم على إعطاء الأولوية للعقل والقلب والروح، باعتبارها أجهزة حساسة ترتبط بها كل الحواس والجوارح الأخرى.
تعتبر الوسطية والاعتدال من أهم خصوصيات الإسلام، في حين يعتبر التطرف والتشدد من أبرز ما اتُهم به الصوفية، فمن المعروف تاريخيا أنه لم تتعرض فئة لإصدار أحكام قيمة سلبية في حقها أكثر من الصوفية. ولذلك، فإن الوسطية والصوفية لا يجتمعان عند كثير من الناس، وهو ما قد يشكل حيفا وتعسفا في حق القوم، وخاصة بعض الأولياء والعلماء الذين اشتهروا بالفقه وضبط العلوم، وإدراك مراتب الاجتهاد في الأدب والفضائل والأخلاق، ولم تشذ حياتهم اليومية عن قاعدة الوسطية والاعتدال التي جاء بها الإسلام، من هنا، تنبع الحاجة للبحث في إشكال الوسطية والاعتدال عند المتصوفة، وذلك وفق رؤية وسطية منصفة للتراث الصوفي وفي الآن ذاته تقدّم قراءة نقدية لهذا الموروث الروحي، من أجل اقتراح اندماج ممكن للتصوف في عالم اليوم.
إن هذا التعبير: “الوسطية والاعتدال في التصوف الإسلامي”، قد يوحي أو يوهم، أن هنالك تصوفا معتدلا يشكل وسطا بين طرفي نقيض: تصوف متطرف وآخر متسامح أو متساهل، وحسب هذا الفهم، هناك أنواع من التصوف، في حين ليس هناك إلا تصوفا واحدا؛ وهو التصوف الإسلامي، والذي يتكئ على مقام “الإحسان” ويقتبس من تعاليم الإسلام ما به تتحقق تزكية النفوس وترتقي الأرواح، وغير هذا النوع يعتبر انحرافا عن الأصل أو تقليدا لا يعول عليه، فينبغي أن نقول أننا بحاجة إلى خطاب صوفي سليم، بدلا من خطاب صوفي معتدل أو متطرف.. لكن، مادام المجال قد خاض فيه الكثيرون من مدعي التصوف، كما قال أبو حامد الغزالي عندما سئل عن التصوف: “هذا باب المدعي فيه كثير”. فإن الحاجة أصبحت ماسة لرد بعض الشبهات من قبيل؛ تطرف الصوفية وانحرافهم عن وسطية الإسلام، أو تعميم انحرافهم، أو الحكم على كل الصوفية بالبدع والضلالات، حيث ينطلق هذا الكتاب من فرضية مفادها أن الصوفية الذين التزموا بوسطية الإسلام التزام اختيار وإبداع وإحسان، فكانوا أكثر تأثيرا في المجتمع من غيرهم، وظلّت آثارهم شاهدة على تاريخهم.
إن تبني الوسطية في التصوف الإسلامي منهجا في الفكر والسلوك، لم يكن تقليدا أو اضطرارا، وإنما اختيارا واقتناعا بأهمية الوسطية في الإسلام، وانسجاما مع دلالات مفهوم الوسطية، المعبر عن معاني “الخيرية والشهادة والعدالة، واختيار الأفضل والأجود من بين الأمور”، دون إفراط ولا تفريط، أي باعتدال من غير إسراف، ولو كان في الخير، فكان بذلك مصطلح “الوسطية والاعتدال” جامعا لمعاني الجودة والتوازن والإتقان، حيث نجح الصوفية في تمثل تلك الدلالات ونقلها من الفكر والتأمل، إلى السلوك والتفاعل.
من الواضح أن تجارب رائدة من التصوف الإسلامي استطاعت بمنهجها الوسطي، أن تقدم درسا في التعايش السلمي والتواصل الحضاري، من خلال تبني ونشر قيم التسامح والحوار ومحبة الآخر، وأن تشكل تلك التجارب الصوفية مدرسة في السلم الاجتماعي، فالتصوف بهذا المعنى، يمكن أن يجسد حقيقة التدين السليم، الذي يحرك الإنسان في دائرة العقل المتوازن، والعاطفة الدينية العقلانية المحتكمة للنصوص والمتكيّفة مع الواقع، وحتى لا تكون هذه الوسطية المنشودة “وسطية اللين والتخاذل”، أو وسطية يتطلع إليها الغرب، أو مَنْ يحارب الهوية الإسلامية في صفائها ونقائها، فإن مفهومها لابد أن يُطلب من القرآن والسنة وعمل الصحابة وعلماء الأمة، وهي روافد الوسطية والاعتدال في التصوف الإسلامي، وما دامت هذه الوسطية تتشبث بأصولها ومصادرها الأولى فهي بخير وعلى صراط مستقيم، أما الخطر الذي يهددها فهو تبديل معناها إلى معاني اللين والبساطة والتنازلات والاستسلام والخضوع والاستلاب..، وهي معاني دخيلة على المفهوم الذي تحول إلى “وسطيات” بدل وسطية خيرية وعادلة واضحة المعنى والدلالات.
من الأكيد أن التصوف الإسلامي في بعض التجارب المشهورة في التاريخ، والمعتمدة على منهج الوسطية والاعتدال، لا يمكن اعتباره حدثا ثقافيا-اجتماعيا جرى في الماضي وانتهى دوره، بل ينبغي النظر إليه باعتباره حمولة تراثية، يمكن استدعاؤها وتوظيفها اليوم لتجديد المنظومة الصوفية برمتها، بهدف تأسيس “تصوف النهوض” القائم على الصفاء الروحي والقيم الأخلاقية، تحت إشراف وقيادة نخبة عالمة مسؤولة، ولعل مصدر قوة هذا التراث الإسلامي، يكمن في منهجه الوسطي، إذ لا ثقافة فاعلة وواقعية بدون الوسطية، حيث إنها تفعل النخب الاجتماعية وتحمي الأمة وهويتها، كما تسهم في “الحفاظ على توازنات اجتماعية واقتصادية كبيرة”، وهو الأمر الذي حاول هذا الكتاب مناقشته والكشف عن تجلياته وأبعاده.
يظهر أن هذا الجانب المشرق للتصوف الإسلامي، والمبني على اختيار الوسطية والاعتدال، فكرا ومنهجا وسلوكا، يحتاج لتعميق الدراسة والبحث، قصد الوقوف على أهم معالمه وإسهاماته وفوائده، خاصة وأن هناك بعض السلوكيات السيئة الصادرة من بعض المنتسبين إلى التصوف قد أساءت لمقام الإحسان، إما بسبب جهلهم، أو عواطفهم الجياشة، أو تأويلاتهم المغالية، أو محدودية علمهم، ومن هؤلاء وبسببهم –على الرغم من قلتهم- جاءت الحاجة لمثل هذا الكتاب لتأسيس رؤية وسطية للتصوف.
أما المحاور الكبرى التي قام عليها كتاب: التصوف الإسلامي: نحو رؤية وسطية، لمؤلفه الدكتور خالد التوزاني فهي تنطلق من تصور المؤلف لموضوع التصوف حيث تضمن الكتاب مقدمة ومدخل وثلاثة فصول ثم خلاصة واستنتاجات.
في المقدمة تناول المؤلف الدكتور خالد التوزاني مشروعية اختيار موضوع الكتاب، وبيان أهميته وبعض خصائصه وإشكالات البحث فيه. ثم تحدث في المدخل عن جوانب من مميزات التصوف الإسلامي، ونقد الحاجة إليه، ومناقشة إشكال المنهج وتحديات البحث في التصوف بشكل عام. ثم خصّص الفصل الأول لاستعراض دلالات مفهوم التصوف وعوامل ظهوره وأصل تسميته وبعض الخصوصيات التي تطبعه مثل الثابت والمتغيّر فيه، وبواعث النزوع نحو التجربة الصوفية. أما الفصل الثاني فتناول فيه المؤلف بالدرس والتحليل نماذج من التصوف الوسطي وما يطرحه من إشكالات، وأيضا الحديث عن تصوف النساء وتحوّل التصوف من الحصار إلى الحوار، وغير ذلك من قضايا التصوف. في حين خصّص الفصل الثالث لرصد أصول الوسطية والاعتدال في التصوف الإسلامي وبيان تجلياتها وآثارها، ثم ختم الكتاب بخلاصة واستنتاجات لخّص فيها جوهر الموضوع وآفاقه وممكنات التوظيف.
يقول مؤلف كتاب “التصوف الإسلامي؛ نحو رؤية وسطية” الدكتور خالد التوزاني: ” إن سَفراً ممتعا وعميقا في عوالم التصوف لا يمكن أن ينتهي إلا ليبدأ من جديد، ذلك أن العرفان الصوفي قد يأسر صاحبه وهو بعدُ في مستهل البدء منتظرا ومضة من فهم أو برقا من معرفة، لأن المجال للخصوص، ولا مكان لفهم النصوص في غياب أصحابها، ومن ثم، كان لا بد من الغوص في الآثار واستنطاق الشواهد والأخبار عبر قراءة متأنية تقترح رؤية وسطية للتصوف، لفك اللغز، لغز العِرفان الصوفي الذي حيّر الدارسين، فالتصوف بحر من المعاني لا ينفد، وشلال من الشوق لا يفتر، ومن ثمَّ، حرصنا في هذا الكتاب على تأسيس معالم هادية لرؤية وسطية تروم الاقتراب الممكن من مجال ديني ووجداني صعب، ومحفوف بمخاطر التأويل والاختراق والانزلاق في متاهات الدفاع أو التبرير، علما أن هدفنا طيلة صفحات الكتاب كان يروم الفهم والتفسير، بعيدا عن كل الحُجُب التي قد تشوش على العقل رؤية الأشياء على حقيقتها لا كما نريد أن نراها، ذلك أن الحماس الديني في لحظات معينة قد يعصف بالمنطق وينسف التحليل الموضوعي للظواهر والقضايا، غيرَ أن البناء المنهجي قد شكّل صمام أمان أمام كل انزلاق أو تهوّر، ولذلك لم نصدر حُكما ولم نتعمّد إقحام رأي دون تبرير أو دليل، فكان الهدف طيلة صفحات الكتاب هو وصف الظاهرة الصوفية في أبعادها المختلفة وتقاطعاتها المتباينة مع مجالات قريبة أو في تماس معها، وذلك وفق رؤية وسطية تنهل من مفهومي الوسطية والاعتدال ما تؤسس به مشروعيتها وفي الآن ذاته يمكن أن تمثّل دعوة في حد ذاتها”، وذلك في سياق إسهام المؤلف في اقتراح حلول لوضع عربي يريد أن يرتقي ولا يعرف كيف، فيكون واجبا حضاريا التفكير في عوائق هذا الرقي المنشود، والعمل على صياغة فكر تنويري وعقلاني يستمد من الوحي/المنهج الإسلامي، صدق الواقع وفعالية التأثير.
إن المجتمعات الإنسانية في الوقت الحاضر، لم تستثمر بعدُ ممكنات التصوف الإسلامي بما يكفي، حيث يملك التصوف خزانا معرفيا وثقافيا وأخلاقيا مؤهلاً للإسهام بفعالية في بناء الحضارة الإنسانية المعاصرة، واقتراح حلول لواقع معقد وملتبس، تهيمن عليه الماديات وأخلاق الطمع والجحود، فالتصوف يملك من أدوات التربية والتزكية ما يساعد على بناء كون فاضل وتنشئة إنسان كامل، يحافظ على ثوابته، وفي الآن ذاته يساير العصر في المتغيرات، وكل تأخير في إدماج أخلاق التصوف داخل بنيات التدبير الإنساني، إنما يفوّت على البشرية فرصة اكتشاف أعماق النفس الإنسانية وروحانيات الإسلام العميق، من خلال منهج العِرفان الصوفي الذي يركز على إصلاح الباطن ليفيض على الظاهر بالخير والنقاء، وعلى المجتمع بالسلم والنماء، خاصة في ظل تزايد الانفلات الأخلاقي والهدر القيمي وانتهاك الحرمات، وعلى رأسها قداسة الإنسان الذي أصبح دمه مستباحا، ومن ثمَّ، لا يوجد متّسع من الوقت لتأخير العمل التزكوي للنفوس وبناء برامج للتنمية البشرية تقوم على إعطاء الأولوية للعقل والقلب والروح، باعتبارها أجهزة حساسة ترتبط بها كل الحواس والجوارح الأخرى.
إن التصوف الوسطي، يمثّل الأفق الأعلى للفكرة الإسلامية، والوجه الأكمل لآدابنا ومثالياتنا، كما يمثّل الكمال في الإيمان، والكمال في كل شأن من شؤون الحياة، ويمثل أيضا الخلاصة الزكية لكل دعوة ربانية، إنه الصدق والأمانة والوفاء والإيثار والنجدة والكرم ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتسابق إلى فعل الخير، وهذه صفاتٌ نبيلة تمثل الخلق القويم الصحيح، ولا ترتبط بأي مذهب أو دين وإنما هي أخلاق المقربين من الصالحين الذين ألهمهم الله التوفيق والسداد، فكل المذاهب والأديان تطمح في رقي الإنسان وتخلّقه بأخلاق الكمال، ولذلك ينبغي أن يظل التصوف فوق كل تمذهب أو تحزب أو تقوقع داخل طريقة معينة، وأن يبقى شأنا إنسانيا نبيلا، لا يحتكره أحد ولا تستولي عليه جهة معينة.
أخيرا، يعتبر كتاب: التصوف الإسلامي: نحو رؤية وسطية” لمؤلفه الناقد والمفكر المغربي الدكتور خالد التوزاني ثمرة بحث طويل في التصوف استغرق أزيد من عشر سنوات قضاها المؤلف في القراءة والبحث والتأمل، وأسفرت عن إخراج هذا الكتاب الذي نجح في تناول موضوع معقد وملتبس وهو التصوف الذي تتداخل فيه الجوانب العقدية والسلوكية وتتجاذبه تيارات دينية واجتماعية وسياسية، فضلا عن صعوبة اختراق النص الصوفي المغرق في الغرابة والدهشة، ومن الجدير بالذكر أن المؤلف الدكتور خالد التوزاني قد سبق له إصدار كتاب حول العجيب في الكتابات الصوفية عام 2015 من منشورات الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، والذي كان موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه عام 2013، الشيء الذي يدل على أن الكاتب قد امتلك آليات تحليل النص الصوفي بما يؤهله للتنظير في مجال الفكر الصوفي واقتراح ممكنات توظيف العرفان الصوفي في برامج التنمية البشرية وتطوير وسائل الأداء البشري وجعل هذا الأداء يرتقي من الفعل المادي القائم على التحفيز والمكافأة إلى الفعل اللامادي القائم على المحبة والتضحية والتطوع والبذل غير المشروط.
للناقد والمفكر المغربي الدكتور خالد التوزاني، جملة من المؤلفات المشهورة، ومنها كتاب الرحلة وفتنة العجيب: بين الكتابة والتلقي، الذي نال جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي للعام 2016، وأيضا كتاب: الرواية العجائبية في الأدب المغربي المعاصر: دراسة نفسية اجتماعية، وكتاب: أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية، وله عدة مقالات منشورة في مجلات علمية محكمة، كما حصل على جوائز في النقد الأدبي منها: جائزة أحمد مفدي للدراسات النقدية بالمغرب، وجائزة الاستحقاق العلمي من مؤسسة ناجي نعمان العالمية للأدب بلبنان، وهو عضو في عدة مراكز بحث.
للتواصل مع المؤلف: touzani79@hotmail.com