بقلم :: محمد رضوان
رجل طويل ثلاثيني العمر ذو ملامح شرقية لاتخلو من رفاهية. سمرته الخفيفة ولمعة عينيه السوداوين المكحلتين، شاربه القصير، وشعره الأسود الناعم الذي ينتهي بخصلة شعر كذيل حصان تلامس ياقة قميصه شهير العلامة . ضخم الجسد، متهدل الثدي، عظيم الردفين في بنطاله الجينز ، يمسك بحقيبة أطفال. يجلس متابعاً ولداً صغيراً جميل السمات يلهو قريبا منه. وبيده المحاطة بسوار لامع خصص لتخفيف آلم المفاصل؛ يمسك هاتفه المحمول يتحدث فيه بين فترة وأخرى .
يبدو منتظراً لقادم من سفر، قد تكون زوجته !!،
يتابع بنظرات لهفى سريعة اللوحة المضيئة للرحلات القادمة والمسافرة. وهو ما يفتأ يتابع بحرص صبيه الصغير الغارق فى اللهو؛ بالتنقل بين مقاعد صالة الوصول الجديدة بمطار القاهرة .
صوت أنيق النعومة يشدو بقدوم طائرة دبي خطوط الإماراتية……
الولد متأملاً للمسافرين أو المنتظرين بعين كحيلة وافرة الأهداب ووجه ابيض مشرب بحمرة خفيفة. سنه بين الرابعة والخامسة ، عليه مخايل الذكاء في حواره مع هذا الأب الضخم ذى الخصلة التي يمسدها بين حين وآخر. وهو يتحايل على تعليماته بعدم الحديث أو اللعب مع الغرباء .فما إن يرى الأب منشغلاً بهاتفه حتى يدنو قافز الخطو بجانب أو أمام أحد الجالسين والذي بدوره يلفته هذا الطفل ببراءته ووسامته، فيحاول محادثته و ملاعبته . بطرف خفي يرمق الطفل أباه، فيجده مازال متعلقاً بهاتفه ، فيرسم دائرة بخطوات قدميه الصغيرتين حول المقاعد وهو يتحاشى ملامسة الجالسين وهو يمر بجسده الصغير أسفل المقاعد عابراً من جانب إلى أخر… صوت سادر في مخمليته متسللْ في جنبات القاعة يدفئ معدنية الأعمدة .
وبهمس خاشع في الأذان، يعلن وصول الطائرة من الأراضي المقدسة على خطوط السعودية ….. الولد يلمح عينا أبيه تلاحقانه وصوته واصل إليه ، يتشاغل عن النداء ، مواصلاً لهوه البريء .. مجبراً أباه على القيام مثقلاً من جلسته متجهاً نحوه . يراه مقبلاً فيبدأ في مناورته والأب يحادثه مرغباً له بأشياء هو يعلمها .مقترباً منه حتى يمسك به .. فيهامسه
في أذنه لثوان كأنما يتوعده ، فيمتثل الطفل في وداعة وخنوع لتعليمات أبيه الذي أنس فيه الطاعة والالتزام. ليعود مثقلاً ليجلس معاوداً تمسيد ذيل حصانه لاصقاً هاتفه بأذنه . الولد يواصل دورانه وهو يلمح الأب منشغلاً بهاتفه . فتتباعد خطواته الصغيرة رويداً رويداً و بهدوء حتى يصل إلى المقاعد المقابلة وسط نظرات الألفة من الجلوس. وربما أيضاً كلمات مداعبة، بعد لحظة وأخرى يكون أسفل المقاعد متنقلاً من جانب إلى أخر.
وصوت فائق الحسن . يعلن بألق عن وصول طائرة بيروت على الخطوط اللبنانية..
في مباغتة يسرع هامساً فى أذن أبيه . مطيعاً للأمر يتساند الرجل على المقعد ليقوم ، ممسكاً بيد الطفل المتقافز الخطو متوجهاً صوب باب دورة المياه ….. المسافرون والقادمون يتبادلون الأدوار، فساعة تخلو القاعة من القادمين وساعة تخلو من الراحلين وساعة تجمعهم معاً سفاراً وإيابا. والرجل بذيل حصانه وولده عاد تاركاً للحظات ولده يرتحل بين المقاعد.لاتغفل عنه عيناه. ولا يفارقه هاتفه المتحدث فيه دوماً . والسماعات المدفونة في الجُدر والأعمدة تبث ترنيمها الذي يثرى الفراغ .. وصوت مشرق البسمة يعلن عن قيام طائرة الأقصر على خطوط مصر للطيران .. في لحظة اختفى الطفل عن العين .
ولم يعد الرجل ذو الخصلة يراه..نادى عليه؛ ثم نادى؛ ثم عاود النداء وقف فجأة، جاحظ العينين ،كمن صعق ، صرخ صرخة مكتومة. كأنما توقع اختفاء ولده إلى الأبد. هرول وسط المسافرين. دار حول المقاعد الكثيرة العدد، مناديا ولده بصوت هلوع، مما جعل البعض رغم انشغالات السفر يتابعه فضولاً
أو اهتماماً. دائراً يعود من حيث بدأ ؛ويبدأ من حيث انتهى لحظات الزمن تلك تنهال عليه أقسى وأعمق من السياط على قلبه… هرولة دلف إلى دورة المياه، ثم ما لبث أن عاد مهرولا كأنما تناسى بدانته .. وصار خفيفاً طلقاً .. عاود النداء، ونادى ونادى ونادى ، حتى قام بعض الرجال للالتفاف حوله .فلم ينتبه إليهم ! .. أو يعيرهم التفاتا ؛ ومضى تائهاً مبتئساً دامع العينين، حائراً لا تستقر عيناه في محجريهما .. لحظات زمن تعاود انصهارها في عقل الرجل، تلك الكتلة الواقعة بين نثار بشرى مرتجل. قطرات العرق جعلت وجهه لامعاً وصار صدره المكتنز يعلو ويهبط متسارعاً. وهو يجوس بين الناس والمقاعد ناظراً بلا حول هنا وهناك. متحركاً في كل جانب. من فوق مقعد جذبته يد ناعمة من الخلف، التفت مذعوراً، ليجد امرأة تلفت نظره إلى ولده الذي كان قابعاً في سكون يحاكى نفسه أسفل المقاعد تواريه الأرجل . ينتزعه الرجل الضخم ملهوفا صائحاً مؤنباً له على فعلته .أغلق هاتفه وحمل طفله ، والطفل بعينين جميلتين أخذ يربت على كتفه بأصابع رقيقة ممسداً خصلة الشعرالمهوش ….
¯ ¯ ¯ ¯ ¯