محمد عبد الحميد المالكي
“.. المعنى ليس معطي ابتداء، ولا هو صفة إيجابية لكلمة محددة، بالمعنى المعياري، بل هو شبكة من العلاقات التي يتم إنشاؤها في النص (الكلام). كما يتم تحديد “قيمة” (value) المعنى من خلال مسؤولية التلقى (القراءة)، بناء على الأوامر الصادرة من شبكة علاقات النص. بالتالي فان آليات التلقي والقراءة ليست عملية محايدة بريئة او بليدة، ذلك لان الكتابة والقراءة (اوالكلام) من جهة أخرى، هي المعنى الكامن في الذكريات الدلالية للآليات التطورية بالمخ..”
“من مساهمتنا (بالانجليزية) بالمؤتمر الدولي 15 للسيميائيات 2022، جامعة مسدونيا، سالونيك اليونان، تقديم عن بعد زووم”
ابستمولوجيا علوم الادب بين كلاسيكية النقد الادبي الكلاسيكي واللسانيات الأدبية
مفهوم القطيعة الابستمولوجية: لا يعني مفهوم القطيعة ان العلوم الحديثة هى بديل للعلوم القديمة، كما لا يعني ان القديم قد انتهى لصالح الحديث الجديد، ذلك لان العلم ليس مسألة أيديولوجية عقائدية يقينية، بل هو حقل مختلف عن الأيديولوجيا ( = حروب الشعارات)، اذ يعتمد برتوكول قابلية الخطأ، بذلك فهو يقر بآليات النمو والتطور. تحدث القطيعة العلمية مع القديم عندما لا تستطيع المنظومة القديمة الإجابة على تساؤلات واشكالية التي يطرحها التطور (اواللغة الأدبية في الحياة الاجتماعية الجديدة)، باختصار:
“ان العلوم الكلاسيكية القديمة، ومنها علوم الادب، هى شبكة من المفاهيم فائقة الدقة والاتقان، اجرائيا ومنهجيا، ولكننا سنسارع للتأكيد ايضا، على انها غير قادرة على التصدي للمشكلات الجديدة لعلوم اللغة الحديثة (اللسانيات) مثل:
كيف هي آليات انتاج المعنى من “النص الادبي“، تلك التي تصدت لها علوم “اللسانيات النصية” (نحو وصرف النص)، حيث ان انتاج المعنى بالنسبة لعلوم اللغة القديمة تنتج معنى على مستوى الجملة فقط (نحو وصرف الجملة). كما لا تستطيع استخلاص اي نتائج من شبكة مفاهيم علوم اللسانيات الأدبية الحديثة.
إشكالية انتاج المعنى في النقد الادبي الكلاسيكي
ان “الادب” صناعة، او”صنعة وحرفة”، حسب تعبير الجاحظ المبهر، وليس كما هي التعبيرات الشائعة اليوم: الابداع الشعري، الخلق الفني..الخ، وكان النقد الادبي القديم فائق الاتقان، اجرائيا ومفاهيميا، على مستوى “معنى الجملة” (مثال صوتيات ابن جني، والدلالة لدى الجرجاني)، ولكن على مستوى “معنى النص” فقد كان معياريا بامتياز. فقد كانت مهمة النقد الادبي تنقسم لثلاث تقنيات أساسية: تمييز الرديء من الجيد واظهار وجوه القوة والضعف في أساليب البيان، إضافة الى تقنية “الموازنة” المعيارية لدى الآمدي فيما بين الطائيين أبي تمام والبحتري. والتقنية الأخيرة هى صيغة افعل تفضيل لدى ابن قتيبة: ايهما اشعر العرب جرير ام الفرزدق؟
بالتالي فأن التعبيرات الشائعة في الكتابات الاكاديمية العربية مثل: استنطاق النص، الكشف عن البنية الدلالية للنص، البحث عن مكنونات النص، النقد ابداع على النص الاصلي، او نقد النقد..الخ، لا تصلح على المستوى العميق لفهم آليات انتاج المعنى، ذلك لانها تنتمي لاستراتيجية مفاهيمية معيارية كلاسيكية قديمة، بالرغم من استخدامها لمصطلحات لسانية حديثة، تم حشرها بتعسف شديد مسايرة لموضة التيمات السائدة. بالتالي أصبح ما نطالب به من اجل تطوير الدراسات الادبية الحديثة مسألة جد ملحة:
المسؤولية التضامنية في ضرورة الاطلاع على الانجازات العلمية الهائلة لما وصلت اليه علوم اللغة على المستوى الدولي، من مقاربات متعددة التخصصات (تطبيقيا ومختبريا): السيميائيات، العلوم العرفانية البيولوجية، الذكاء الصناعي وخوارزميات التعلم العميق..
سنتعرض فيما بعد لاشكالية “المعنى” لدى اللسانيين، منذ الشكلانيين الروس حتى تأسيس علم النص ضمن مدرسة البنيوية الفرنسية، وكيف أنجزت ذلك عبر مدرسة باريس السيميائية (غريماص 1966)، إضافة الى استعراض الإشكالية فلسفة اللغة، خاصة لدى الوضعية الجديدة (موريس وكرناب). (يتبع)