- علي المنصوري
وقف شاب طويل القامة مفتول العضلات في منتصف الرصيف .. يحمل بين يديه عدة التنظيف الخاصة بتلميع الزجاج .. قال في نفسه: كان يوماً طويلاً، عندما انتهي من هذا الزجاج، سأحظى بكوب شايٍ من ذلك المقهى أدفئ به أحشائي.
ثم رأى العجوز صاحب المحل المقابل يرفع يده مشيراً له بالمجيء وهو يناديه بصوته المبحوح قائلاً: أنت، تعال يا هذا.
تقدّم الشاب رافعاً سرواله تجنباً لبركِ المياه نحو العجوز.
استقبله العجوز بإبتسامةٍ تكاد تسقطُ عن شفتيهِ المتورمتين وقال: ما اسمك؟
ردّ الشاب: أكرم
العجوز: هاكِ يا أكرم.
ناولهُ بعض العملات الورقية وقال: امسح هذا الزجاج من الخارج والداخل واحرص على تلميعه جيداً يا بُني.
بدأ أكرم في التلميع والشطف فظهرَ له وجه محبوبته منعكساً على الزجاج، إلتفت خلفه ظانّاً أنها تقف وراءه فلم يجد سوى العجوز يحدق به، ابتسم وأكمل التنظيف، لم يستغرق لحظات حتى أنهى عمله ليدخل العجوز صوب المحل واتجه الشاب نحو المقهى ليُكافئ نفسه بكوبٍ من الشاي الدافئ.
ما إن جلس وأشعل سيجارته سيئة الصنع حتى جاءه ماطلب.
حرك الشاي الذي يتعالى منه بخارٌ ساخنٌ حتى ذاب سُكّره في قعر الكوب وسحب منه كيس الشاي الرديء
وتذمّر في سره قائلاً: إنه بلا طعم ولا رائحة، كالنقود التي في جيبي.
سرح بنظره في الكوب حيث استقرّ ماءُ الشّاي الذي بدى كلون الشمس عند الغروب فظهرت صورة محبوبته السمراء التي واصل الليل بالنهار يعمل لأجلها وتلاشت مع البخار المتصاعد من الشاي الساخن..
كما هو حاله دوماً، شَرُدَ ذِهنُهُ وأصبحَ يفكر من أين سيأكل كتف المال كي يُتوَّجَ بحبيبته ولو لِلَيلة.
توالت عليه الأفكار بلا هوادة، الواحدة تلو الأخرى، بدت جميعها صعبة. وعندما استقر ذهنه على فكرة قطعتْ حبل أفكاره ذبابةٌ سقطتْ في وسط الكوب.
أشاح بنظره للسماء وللشارع استعداداً للمغادرة متأملاً زواياه ووجوه المارّين ، مضى تحت زخات المطر الخفيفة مطلقاً تنهيدةً من جوفه.
غادر المكان ولم يره أحدٌ في ذاك الشارع إلا بعد فترة ليست بالقصيرة. شحُب لونه وهَزُلَ جسدُه، لكنّ جيبه اكتظّ بالمال وبمفتاح شقةٍ صغير، تعدّل هندامه وأصبح كل ما رسمه في خياله يتحول إلى واقع ملموس، لم يعد عناق محبوبته وهماً بعد أن استطاع التقدم لخطبتها، وما هي إلا أيام وسيفوز بها ويهنأ له العيش..
ولكنه لم يسلم من لسان الناس التي أصبحت ترميه بسهام الرذيلة والإشاعات.
وفي أحد الأيام وهو جالسٌ في ذات المقهى سمع أحدهم يهمس لصديقه: يبدو بأنه أصبح تاجر ممنوعات.
بعد عدةِ همسات ولمزاتٍ وقعت على مسامعه، غادر أكرم بغصة في قلبه تكاد تنفجر.
لم ترحمه ألسنة الناس والتهم الزائفة، لم يشفعوا له حتى وهو بعيدٌ عنهم، كانوا جميعاً قساةً بمن فيهم محبوبته التي اتصلت به بعد يومين من خطبتهما لتنهي كل ما فعله لأجلها بعد أن وقع الشكُّ بقلبها وسقطت فريسةً للإشاعات والتهم الزائفة، وقع الظُّلمُ عليه وتحولت صورتها إلى خُذلانٍ في عينيه.
فارق الحياة بعد عدة أيامٍ من تلك الحادثة، لم يرحمه أحدٌ حتى وهو بين يدي الله ولم يكفوا عنه بلاءهم، لم يُخرس ألسنتهم أحدٌ عدا الطبيب الذي أوضح في تقريره الطبي أن الفقيد له كلية واحدة ..