السيد حسن
تَعَجَّبَ مِن نَفسِهِ، وَمِنَ الحَالِ الَّتِى يَرَى ذَاتَهُ عَلَيهَا، كَيفَ يُمكِنُ أَن يَكُونَ هَادِئَاً إِلَى هَذَا الحَدِّ، مُطمَئِنَاً إِلَى هَذَا الحَدِّ؟
كَانَ يُمكِنُ لِلأُمُورِ أَن تَتَصَاعَدَ وَأَن تَتَطَوَّرَ بِطَرِيقَةٍ بَالِغَةِ الخُطُورَةِ، فَالبِيَئَةُ الرِّيفِيَّةُ الَّتِي هُوَ مُنغَمِسٌ فِيهَا حَتَّى أُذُنَيهِ، لا تَتَسَامَحُ مَعَ مِثلِ هَذِهِ الأُمُورِ، وَلا تُمَرِّرُهَا بِسُهُولَةٍ، وَكُلُّ شَيءٍ وَارِدُ الحُدُوثِ فِي مِثلِ هَذِهِ الحَالَةِ. لَكِنَّ شَيئَاً مَا دَاخِلَهُ كَانَ يَبعَثُ فِي رُوحِهِ بِأَشِعَّةِ غَرِيبَةٍ مِنَ الثِّقَةِ والسَّكِينَةِ وَالهُدُوءِ وَالاطمِئنَانِ، كَانَ لَدَيهِ شُعُورٌ مُبهَمٌ بِأَنَّهُ فِي أَمَانٍ، يَشعُرُ عَلَى نَحوٍ خَفِيِّ بِأَنَّ الآَخَرَ هُوَ
العَالِقُ فِى الشَّرَكِ، وَالوَاقِعُ فِي المَأزِقِ وَلَيسَ هُوَ، وَأَنَّهُ الطَّرَفُ الأَقوَى، عَلَى الرَّغمِ مِن أَنَّهُ مُذنِبٌ عَلَى نَحوٍ مَا، وَفقَاً لِلأَعرَافِ الرِّيفِيَّةِ الَّتِي عَلَيهِ أَن يَحتَرِمَهَا وَيَلتَزِمَ بِهَا.
هُوَ يُنَاهِزُ عَامَهُ السَّادِسَ عَشَرَ، وَمَا أَدرَاكَ مَا العَامُ السَّادِسَ عَشَر، آَهِ يَا عَامِيَ السَّادِسَ عَشَرَ!!!
إِنَّ لِهَذِهِ العِبَارَةَ رَنِينَاً خَاصَّاً، يُوقِظُ فِي وِجدَانِهِ أَشيَاءَ مُبهِجَةً دُونَ أَن يَعرِفَ مَا هِيَ.
يُحَاوِلُ أَن يَتَذَكَّرَ رَنِينَ هَذِهِ العِبَارَةَ، أَينَ قَرَأ تَعِبيَرَاً كَهَذَا؟
نَعَم، نَعَم، قَرَأَهُ فِي قَصِيدَةٍ لِلشَّاعِرِ “أَحمَد عَبدِ المُعطِى حِجَازِي، فَهوُ رَغمَ الأَجوَاءِ الرِّيفِيَّةِ الَّتِي تُحِيطُ بِهِ مِن كُلِّ اتِّجَاهٍ قَارِىءٌ نَهِمٌ، دَائِرَةُ قِرَاءَاتِهِ رَحبَةٌ وَاسِعًةٌ وَلَدَيهِ ذَائِقَةٌ رَفِيعَةُ المُستَوَى، فِي القِرَاءَةِ وَالفَهمِ، وَالإِحسَاسِ بِمَا يَقرَأُ. وَهُوَ حِينَ قَرَأَ القَصِيدَةَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقَعَ فِي غَرَامِهَا، ثُمَّ عَادَ لِقِرَاءَتِهَا مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ، لَقَد أَحَسَّ بِهَا إِحسَاسَاً عَمِيقَاً، وفَهِمَ مَا يَقصِدُهُ كَاتِبُهَا تَمَامَاً، مِنَ اختِيَارِ هَذَا العَامِ لِيَكُونَ نُقطَةً فَارِقَةً فِي حَيَاةِ الإِنسَانِ:
“يَا صَدِيقِي .. نَحنُ قَد نَغفُو قَلِيلاً، بَينَمَا السَّاعَةُ فِي المَيدَانِ تَمضِي، ثُمَّ نَصحُو، فَإِذَا الرَّكبُ يَمُرّ، وَإِذَا نَحنُ تَغَيَّرنَا كَثِيرَاً، وَتَجَاوَزنَا عَامَنَا السَّادِسَ عَشر”
رُبَّمَا لَم تَكُن سُطُورُ القًصٍيدًةٍ هَكَذَا تَمَامَاً، لَكِنَّ هَذَا مَا يَذكُرُهُ مِنهَا الآَنَ. كَمَا أَنَّهُ يَذكُرُ تِلكَ السُّطُورَ المُدهِشَةَ الَّتِي يَستَعِيدُ فِيهَا كَاتِبُهَا وَهَجَ العَامِ السَّادِسَ عَشَرَ الحَالِمَ الهَامِسَ الجَمِيلَ:
“عَامِي السَّادِسَ عَشر، حِينَ فَتَّحتُ عَلَى المَرأَةِ عَينِي،
يَومَهَا وَاصفَرَّ لَونِي”
يَاه!! لَكَم تَأَخَّرتَ يَا عَمّ أَحمَد، كَيفَ انتَظَرَت عَينُكَ إِلَى عَامِكَ السَّادِسَ عَشَرَ قَبلَ أَن تَفتَحَهَا عَلَى المَرأَةِ، إِنَّهُ فهُوَ قَد تَفَتَّحَت عَينَاهُ الاثنَتَانِ عَلَى المَرأَةِ قَبلَ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ، تَفَتَّحَتَا عَلَيهَا دُونَ أَن يَصفَرَّ لَونُهُ، كَانَ هَادِئَاً دَائِمَاً، وَاثِقَاً دَائِمَاً، كَمَا هُوَ الآَنَ.
الآَنَ، نَعَم، لَقَد جَرَى كُلُّ شَىءٍ بِبَسَاطَةٍ وَيُسرٍ، هُوَ كَانَ يَعمَلُ فِي الحَقلِ، يُسَمُّونَ عَمَلَهُ “الخُولِي”، أَمَامَهُ بِضعَةَ عَشَرَ صَبِيَّاً وَصَبِيَّةً، يَجمَعُونَ تِلكَ الأَورَاقَ الخَضرَاءَ الَّتِي اختَارَتهَا فَرَاشَاتُ دُودَةِ القُطنِ مِن بَينِ أَغصَانِ نَبَاتِ القُطنِ لِتَضَعَ عَلَيهَا بَيضَهَا، فِي دَائِرَةٍ جَمِيلَةٍ المَنظَرِ، تَختَارُ أن
تَضَعَهَا دَائِمَاً فِي ظَهرِ الوَرَقَةِ، مُحتَمِيَةً بِالظِّلِّ وَالخَفَاءِ، فَتَحتَفِظَ بِلَونِهَا الوَردِيِّ الجَمِيلِ، وَلِسَبَبٍ غَيرِ مَفهُومٍ، قَد تُضطَّرُ الفَرَاشَةُ أَحيَانَاً إِلَى أَن تَضَعَهَا عَلَى وَجهِ الوَرَقِةِ الخَضرَاءِ، وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ تُحِيلُ الشَّمسُ لَونَ دَائِرَةِ البَيضِ الَّتِي كَانَت وَردِيَّةً إِلَى اللَّونِ الأَبيَضِ.
تَفعَلُ الفَرَاشَةُ ذَلِكَ فِي رَشَاقَةٍ وَتَمضِي، وَقَد أَدَّت رِسَالَتَهَا فِي الحَيَاةِ، ثم يكون عَلَى هَؤُلاءِ الصِّبيَةِ المَسَاكِينِ أَن يَبحَثُوا بَينَ كُلِّ أَورَاقِ النَّبَاتِ عَن هَذِهِ الأَورَاق المُحَمَّلَةِ بِهَذِهِ “اللُّطَعِ”، وَأَن يَجمَعُوها لِيَقذِفُوا بِهَا فِي نِهَايَةِ اليَومِ إِلَى النَّارِ، فَيَحتَرِقَ البَيضُ قَبلَ أَن يَفقِسَ، وَيُمنَحَ الفُرصَةَ لِلحَيَاةِ.
شَمسُ يُوليُو فَوقَ رَأسِهِ، وَفَوقَ ظُهُورِهِم، مُشتَعِلَةٌ فِي هَذِهِ الظَّهِيرَةِ المُتَّقِدَةِ، لَكِنَّهُ هُوَ لا يَشعُرُ بِهَذَا الاشتِعَالِ وَلا ذَلِكَ الاتِّقَادِ، هُوَ سَابِحٌ فِي خُضرَةِ عَينَيهَا المُدهِشَةِ، صَحِيحٌ أَنَّ وَلَعَهُ بِاللَّونِ العَسَلِيِّ فِي العُيُونِ لا يُدَانِيهِ وَلَعٌ، لَكِنَّ هَاتَينِ العَينَينِ تَمتَلِكَانِ سِحرَاً لا يُقَاوَم وَخُضرَةً لا حُدُودَ لِجَمَالِهَا، هل تَبدُو تِلكَ الخُضرَةُ وَكَأَنَّهَا قَد استَعَارَت مِن أَورَاقِ القُطنِ بَعضَ لَونِهَا الجَمِيلِ؟
لا، لا، لَم تَستَعِر عَينَاهَا هَذِهِ الخُضرَةَ الزَّاهِيَةَ، عَينَاهَا فُستُقِيَّتَانِ، هَادِئَتَا الخُضرَةِ، مُنفَتِحَتان عَلَى أُفُقَي الصَّفَاءِ وَالغُمُوضِ مَعَاً.
هَل أَحَبَّهَا؟
لا يَستَطِيعُ أَن يَجزِمَ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ يَستَطِيعُ أَن يَجزِمَ دُونَ تَرَدُّدٍ بِأَنَّهُ فِي هَذِهِ اللَّحظَةِ يَعِيشُ نَشوةً عَاطِفِيَّةً مُذهِلَةٍ، وَأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي نَوبَةٍ سِحرٍ شَاعِرِيَّةٍ، لا يَنَالُ مِنهَا قَسوَةُ شَمسِ يُوليُو وَلا اتِّقَادُهَا المُشتَعِلُ. هِيَ ابنَةُ الوَجِيهِ السَّاكِنِ عَلَى بُعدِ مِئَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنَ الأَمتَارِ مِن هَذَا الحَقلِ الَّذِي يَعمَلُ بِهِ، فَارِعَةُ الطُّولِ، هَيفَاءُ القَدِّ، بَاسِمَةُ الوَجهِ فِي مَزِيجٍ مِنَ الجُرأَةِ وَالحَيَاءِ، كَثِيرَاً مَا تَبَادَلا التَّحِيَّةَ المَنطُوقَةَ وَالصَّامِتَةَ فِي مُرُورٍ عَابِرٍ أَو وَقفَةٍ قَصِيرَةٍ، وَدَائِمَاً مَا كَانَ هُنَاكَ كَلامٌ خَلفَ الكَلامِ، وكَلامٌ أَكثَرُ وَأعمَقُ وَأجمَلُ خَلفَ الصَّمتِ.
أَمَّا اليَومَ فَقَد جَاءَت هَي إِلَى هُنَا فِي جُرأَةٍ هَادِئَةٍ، جَاءّت إِلَى هَذَا الحَقلِ، إِلَى حَيثُ يُكَابِدُ هُوَ وَصِبيَتُهُ عَنَاءَ الشَّمسِ وَالجهدِ، جِاءِت مُصطَحِبَةً مَعَهَا الجَنَّةَ، كَانَتِ (القُلَّةُ) الصَّغِيرَةُ فِي يَدِهَا، أَصغَرَ مِن أَن تُروِي هَذَا الجَمعَ مِنَ الصِّبيَةِ، وَمَا كَانُوا هُم
بِحَاجَةٍ إِلَى رِيِّهَا، فَلَدَيهِم “المَلايَةُ” أو “السَّقَّايَةُ”، الَّتِي تَملأُ “قُلَّتَهُم” الكَبِيرَةَ لِتَسقِيَهُم جَمِيعَاً قَبلَ أَن تُعاوَدَ مَلأَهَا مِن جَدِيدٍ. لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ بِحَاجَةٍ إِلَى رِيِّ هَذِهِ “القُلَّةِ”، بَالِغَةِ الصِّغَرِ بَالِغَةِ الجَمَالِ، الَّتِي بَدَت هِي أَيضَاً مَجلُوبَةً مِنَ الجَنَّةِ.
لَم يَكُن ظَامِئَاً لِلمَاءِ، قَدرَ ظَمَئِهِ لِشَهدِ عَينَيهَا المُصَفَّى، لِذَلِكَ ارتَشَفَ رَشَفَاتٍ قَلِيلَةً مِن “قُلَّتِهَا” الفِردَوسِيَّةِ، ثُمَّ رَاحَ يَنهَلُ مِن مَعِينِ عَينَيهَا الكَوثَرِيِّ البَدِيعِ.
طَالَتِ الوَقفَةُ، وَقَلَّتِ كَلِمَاتُ الشفاه، وَفاضَت كَلِمَاتُ العُيُونِ، ثُمَّ طَالَتِ الوَقفَةُ أَكثَرَ فَأَكثَرَ، وَتَحَوَّلَت إِلَى خُطُوَاتٍ مُتَنَاغِمَةٍ، يَسِيرَانِهَا مَعَاً، خَلفَ هَؤُلاءِ الصِّبيَةِ المُعَذَّبِينَ، وَلا هُوَ وَلا هَي يَستَطِيعُ أَيٌّ مِنهُمَا أَن يُبعِدَ عَينَيهِ عَن عَينَي الآَخَرِ.
بَدَتِ اللَّحظَةُ سِحرَاً حَقِيقِيَّاً، وَحُلمَاً لا يَودُّ مِنهُ استِيقَاظَاً، وَلا يَظُنُّهَا هِي أَيضَاً كَانَت قَادِرَةً عَلَى الاستِيقَاظِ، أَو رَاغِبَةً فِيهِ. وَبَينَمَا كَانَا هُمَا يَرفُلانِ فِي نَعيِم جَنَّتِهِمَا الحَالِمَةِ، ذَائِبَينِ فِي سِحرِ العَينَينِ، مُنصِتَينِ إِلَى بَوحِهِمَا البَدِيعِ، وَغَيرَ بَعيدٍ عَن حَقلِهِمَا، كَانَ رَجُلٌ يَتَلَظَّى فِي جَحِيمِهِ الخَاصِّ، وَلا يَدرِي كَيفَ يَتَصَرَّفُ، عَمُّهَا، لَيسَ فِي وَجَاهَةِ أَبِيهَا، لِذَلِكَ عَلَيهِ أَن يَعمَلَ فِي حَقلِهِ بِنَفسِهِ، لَكِنَّ عَنَاءَ العَمَلِ وَمَشَقَّتَهُ أَهوَنُ عَلَيهِ كَثِيرَاً مِمَّا يُعَانِيهِ الآَنَ، وَهُوَ يَرَى ابنَةَ أَخِيهِ – الَّتِي بَلَغَت الرَّابِعَةَ عَشرَةَ مِن عُمرِهَا – عَلَى بُعدِ عَشَرَاتِ الأَمتَارِ مِنهُ، تَخطِرُ مُتَنَزِّهَةً مَعَ ذِلِكَ الشَّابِّ الهَادِىءِ فِي ثِقَةٍ واطمِئنَانٍ، دُونَ أَيِّ اعتِبَارٍ لَهُ، أَو اهتِمَامٍ بِالذَّاهِبِينَ وَالعَائِدِينَ مِن الفَلاحِينَ وَأَبنَائِهِم، فَضلاً عَن هَؤُلاءِ الصِّبيَةِ الَّذِينَ يَسيرُونَ أَمَامَهُمَا مُطَأطِئِي الرُّؤوسِ مُنحَنِي الظُّهُورِ، يَبحَثُونَ عَن دَوَائِرِ البَيضِ الوَردِيَّةِ وَالبَيضَاءِ. هَل يَذهَبُ إِلَيهَا ويَجُرُهَا مِن شَعرِ رَأسِهَا وَسطَ الحَقلِ لِتَكُونَ فَضِيحَةً كَبِيرَةً، يَتَنَدَّرُ بِهَا الفَلاحُونَ لأَيَّامٍ أَو رُبَّمَا لأَسَابِيَعَ حَتَّى يَجِدَّ حَدَثٌ جَدِيدٌ يَتَنَدَّرُونَ بِهِ؟ هَل يَذهَبُ إِلَى هَذَا الفَتَّى المُستَهِينِ بِهِ الضَّارِبِ بِحُضُورِهِ عرَضَ الحَائِطِ، وَيُلَقِّنَهُ دَرسَاً يَليقِ بِفَعلَتِهِ؟ وَلَكِن مَاذَا لَو قَالَ لَهُ إِنَّنِي فِي عَمَلِي لَم أَذهَبْ إِلَيهَا، بَل هِي الَّتِي جَاءَت إِلَى هُنَا؟كَلِمَاتٌ لا تَقِلُّ إِهَانَةً عَمَّا يَرَاهُ الآَنَ.
هَل يَتَغَافَلُ ويَتَشَاغَلُ عَنهُمَا مُدَّعِيَاً أَنَّهُ لَم يَرَ شَيئَاً؟!!!
تَمَنَّى لَو أَخرَجَتهُ هِيَ مِن مَأزِقِهِ، وَانسَحَبَت مِن هَذِهِ الوَقفَةِ الَّتِي طَالَت وَطَالَت، لَكِنَّهَا لَم تَفعَل، بَدَأَ يَتَمَلمَلُ، وَيَزدَادُ جَحِيمُه كُلَّمَا طَالَت الوَقفَةُ النُّزهَةُ، ثُمَّ لَم يَستَطِع أَن يَتحَمَّلَ أَكثَرَ، وَلا أَن يَصبِرَ أَكثَرَ، فَانفَجَرَ أَخِيرَاً، وَجَرَى فِي اتِّجَاهِهَمَا فِي غَضَبٍ كَبِيرٍ. رَآَهُ قَادِمَاً فِي ثَورَتِهِ، لَكِنَّهُ لَم يَشعُر بِأَيِّ لَونٍ مِن الخَوفِ أَو الرَّهبَةِ أَو حَتَّى القَلَقِ.
مَا هَذَا البُرُودُ؟
لَم يَكُن بُرُودَاً، كَانَ ذَلِكَ الشَّىءَ الغَامِضَ الَّذِي يَسكُنُهُ وَيَبعَثُ إِلَيهِ بِأَشِعَّةِ الاطمِئنَانِ.
المُدهِشُ أَنَّ عَمَّهَا حِينَ جَاءَ، لَم يُوَجِّه إِلَيهِ كَلِمَةً وَلا حَتَّى نَظرَةً، بَل اتَّجَهَ إِلَيهَا هِيَ فِي عُنفٍ بَادٍ،وَغَيظٍ شَدِيدٍ، يَنهَرُهَا، وَيَأمُرُهَا بِالانصِرَافِ، وَيُوبِّخُهَا عَلَى وقفَتِهَا هَذِهِ، أَحَسَّ أَنَّ رُجُولَتَهُ عَلَى المَحَكِّ، هُوَ لا يُرِيدُ لِلمَوقِفَ أَن يَتَصَاعَدَ أَكثَرَ وَأَكثَرَ، وَلا يُرِيدُ أَن يَستَفِزَّ غَضَبَ العَمِّ الثَّائِرِ أَصلاً، لَكِن يَنبَغِي عَلَيهِ أَن يَفعَلَ شَيئَاً يَحفَظُ لَهَا كَرَامَتَهَا، وَيَحفَظُ لَهُ هُوَ رُجُولَتَهُ.
تَعَجَّبَ مِن هَذِهِ المُنَاقَشَةِ الَّتِي تَدُورُ فِي رَأسِهِ الآَنَ، بَينَمَا المَوقِفُ مُشتَعِلٌ فِعلاً، وَحِينَ انبَرَى لِلدِّفَاعِ عَنهَا – كَانَ يَنوِي أَن يَكُونَ دِفَاعَاً عَقلانِيَّاً هَادِئَاً يَشرَحُ فِيهِ أَنَّهُ لَيسَ هُنَاكَ مَا يَشِينُ- كَانَت هِيَ قَد سَبَقَتهُ، وَنَظَرَت فِي عَينَي عَمِّهَا فِي تَحَدٍّ مُذهِلٍ وَهِي تَقُولُ:
“لَو سَمَحتَ لا تَرفَع صَوتَكَ عَلَيَّ، فَأَبِي وَحدَهُ الَّذِي لَهُ الحَقُّ فِي ذَلِك” قَالَتهَا وَهِي تَمضِي مُنصَرِفَةً فِي غَضَبٍ، دُونَ أَن تَشعُرَ بِأَىِّ قَدرٍ مِنَ الخَجَلِ.
تَبِعَهَا عَمُّهَا فِي الانصِرَافِ، وَبَقِي هُو يَتَأَمَّلُ مَا حَدَثَ، وَقَد بَدَأَ يَرَاهَا بِعَينٍ مُختَلِفَةٍ.