- شُكْري السنكي
الذّكرى الواحدة والسبعون لقرار الأمم المتَّحدة بشأن استقلال ليبَيا
دفع الِلّيبيّون مِن أجل طرد المستعمر الإيطالي واسترداد حريتهم أكثر مِن نصف عددهم بين شهيد فِي القتال ومعتقل ومهجر. ولم تتوقف معاركهم مع المستعمر منذ دخول قوَّاته الأراضي الِلّيبيّة العَام 1911م وحتَّى ساعة استشهاد أمير المجاهدين وقائد أدوار المُقاومة المُسلحة فِي ليبَيا، عُمر المختار يوم 16 سبتمبر 1931م.
ومِن تاريخ استشهاد شيخ الشهداء عُمر المختار إِلى سَاعة إصدار الجمعيّة العامـّة للأمم المتَّحدة قرارها رقم «4/289» فِي 21 نوفمبر 1949م، القاضي باستقلال ليبَيا بأقاليمها الثلاثة «برقة، وطرابلس، وفزَّان» فِي تاريخ أقصاه يناير 1952م، لم يتوقف عمل النخبة فِي المنفى يوماً لأجل دعم مواطنيهم فِي الدّاخل معنويّاً وماديّاً، وإبقاء خيار المقاومة، كذلك التفكير فِي الوسائل المجدية لتحقيق الاستقلال وإخراج المستعمر مِن بلادهم مِن خلال مشروع سياسي واضح المعالم ومحدد الأهداف ومنضبط المسار.
والْحَق الَّذِي لا مِرَاء فِيْه أن تصدي الِلّيبيّين لقوَّات المستعمر الغازيّة، فخر ونياشين عزة تعلق على صدر كلِّ لّيبيّ، ومواقف سجلها التاريخ بماء الذهب، ففي الوقت الّذِي تمكنت فيه القوَّات الغازيّة فِي العديد مِن البلدان الّتي استعمرتها، مِن البقاء مدداً زمنيّة طويلة جدَّاً، تراوحت مَا بين «132» مائة واثنين وثلاثين عاماً، و«46» ستة وأربعين عاماً، لم تتمكن قوَّات المستعمر الإيطالي مِن البقاء فِي ليبَيا أكثر مِن «32» اثنين وثلاثين عاماً، لم ترتح فيه يوماً أو يهنأ لها عيش، وقوبلت بالرفض والتصدّي والمُقاومة الشديدة، ودفـعت تلك القوَّات ثمناً باهظاً فِي معارك مُسلحة استمرت عشرين عاماً متواصلة. وبعْد المواجهات المُسلحة المباشرة فِي ساحات المعارك على مدار عقدين مِن الزمان، توقفت تلك المواجهات عقب استشهاد عُمـر المُختار فِي صيف 1931م، واضطر مَنْ بقي حياً مِن قادة الجَهاد بعْد ذلك إِلى الهجرةِ إِلى دولِ الجوارِ الجغرافيِ، وأسسوا في العَام 1940م جيشاً وطنيّاً للتَّحرير عُرف باسم «الجيش السّنُوسي»، تحالف مع قوَّات «الحلفاء» فِي الحرب العالميّة الثّانيّة، وساهم هذا الجيش – وبشهادة جنرالات قوَّات الحلفاء – مساهمة فعَّالـة فِي تحقيق الانتصار على قوَّات «المحور»، وقد توَّج هذا الانتصار بخروج الطليان مِن ليبَيا، وطُرِدَ آخر جندي إيطالي مِن الأراضي الِلّيبيّة فِي يوم 25 يناير 1943م. وبعْد ذلك، دخل اللّـيبيّون فِي معركة سياسيّة قاسيّة وشرسة لا تقل ضراوة وقسوة عَن سابق مواجهاتهم المُسلحة، وقد خاضوها بشجاعة وحنكة وحكمة بالغة.
وفِي أواخر العَام 1947م، وصلت إِلى ليبَيا اللّجنة الدّوليّة المكونة مِن ممثلين عَن: الولايّات المتَّحدة والمملكة البريطانيّة المتَّحدة وروسيا وفرنسا، وبقيت فِي البلاد حتَّى ربيــع سنة 1948م، وتحركت فِي كافـة المدن والقرى والأرياف، والتقت بعامّة الِلّيبيّين والكثير مِن المشايخ والأعيان والشخصيّات السّياسيّة والاجتماعيّة المعروفة، لأجل التعرف على حقيقة الأوضاع وتقييمها بِشكل دقيقِ وعَن قرب، كذلك لمعرفة «الرَّغبات الحقيقيّة للسكّان»، وقد خلصت نتائج بحث اللّجنة إِلى أن ليبَيا ليست مهيأة للاستقلال وأخطرت اللّجنة هيئة الأمم المتَّحدة بذلك ثمَّ أيدت مشروع «بيفن – سفورزا» المتفق عليه بين بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والمُعلن عنه فِي 10 مارس 1949م، والقاضي بفرض الوصايّة على ليبَيا. خاضت القوى الوطنيّة بقيادة الأمير إدْريْس السّنُوسي معركة سياسيّة وديبلوماسيّة شرسة لإسقاط مشروع الوصايّة وتمهيداً لعرض المسألة الِلّيبيّة مجدَّداً على الهيئة الأمميّة لإصدار قرار بشأن استقلال البلاد، ونجحت الوفود الِلّيبيّة المُرسلة للهيئة الأمميّة فِي مهمتها بحرفيّة واقتدار وحققت رغبات الِلّيبيّين الحقيقيّة، والّتي ترجمها الِلّيبيّون بخروجهم واحتشادهم فِي مظاهرات عارمة على امتداد المدن الِلّيبيّة وقرى البلاد المختلفة، تنديداً بالمشروع ورفضاً له، ومِن أجل الحريّة والاستقلال وتحقيق الوحدة الترابيّة والسّيادة الوطنيّة.
ورُبّما أستطرد هُنا لأؤكد أن الوفد الِلّيبيّ الّذِي شارك فِي جلسة الأمم المتَّحدة يوم 17 مايو 1949م الخاصّة بمشروع الوصايّة المعروف باسم «بيفن – سفورزا»، والقائم على منح ليبَيا استقلالها بعْد عشر سنوات مِن تاريخ الموافقة على المشروع، أدَّى دوره على أكمل وجه وأنجز مهمته بمهارة شديدة واقتدار عظيم، حيث فاجأ الجميع وأفشل مشروع «بيفن – سفورزا»، وذلك حينما نجحوا فِي إقناع مندوب هايتي ليصوت ضدَّ مشروع الانتداب مخالفاً تعليمات بلاده، ومِن بين أولئك الرجال العظام الكبّار، وَفِي مقدمتهم علي نورالدين العنيزي وعبْدالرازق شقلوف. ويُذكر أن إقليــم برقـة، كان قد أرسل إِلى الأمم المتَّحدة وفدين، الأوَّل فِي مايو 1949م، ضمَّ: عُمر فائق شنّيب وخليل القلال وعبْدالحميد العبّار، والوفد الثّاني فِي نوفمبر 1949م وضمَّ: عُمر فائق شنّيب وخليل القلال وعبْدالرازق شقلوف. وشاركت طرابلس بوفـد مكّون مِن المؤتمر الوطنيّ وحزب الاستقلال وهيئة تحرير ليبَيا، إِلى جانب وفد يمثل يهود طرابلس، وقد ضمَّ وفد المؤتمر الوطنيّ: بشير السعداوي ومُصْطفى ميزران ومحمّد فؤاد شكري، وضمَّ وفـد حزب الاستقلال: عبدالله الشّريف وأحمَد راسم كعبّار وعبدالله بِن شعبان ومختار المنتصر، أمّا حزب هيئة تحرير ليبَيا فمثله الدّكتور علي نور الدّين العنيزي.
وإسقاط مشروع الوصايّة بفارق صوت واحد، يعني أن المَعْركة كانت حاميّة الوَطِيس، وأن الِلّيبيّين انتزعوا هذا القرار انتزاعاً، فالقرار حققته الإرادة الوطنيّة الصّادِقة ولم يكن مِن المجتمع الدّوليّ، حيث كانت الدول والقوى العظمى منقسمة على نفسها، ولم تكن الإرادة الدّوليّة حينها مصطفة إِلى جانب الِلّيبيّين.
والشّاهد، سقط مشروع الوصايّة «بيفن – سفورزا»، حينما عُرض للتصويت على الجمعيّة العامّة للأمم المتَّحدة يوم 17 مايو 1949م، وكان المشروع يتطلب موافقة ثلثي الأعضاء الحاضرين لتمريره، مِن مجموع «58» ثمانية وخمسين دولةً. وقد سقط المشروع بفارق صوت واحــد، المشروع الّذِي كان مقدَّماً مِن قبل وزير خارِجِيّة بريطانيا إرنست بيفن ووزير خارِجِيّة إيطاليّا كارلو سفورزا، والّذِي عُرف اختصاراً باسميهما «بيفن – سفورزا»، والقاضي بفرض وصايّة ثلاث دول على ليبَيا لمدة عشر سنوات. كان الصوت اليتيم الّذِي أسقط المشروع هُو صوت إميل سان لو سفير دولة هايتي، فسقط المشروع وأحيل ملف قضيّة ليبَيا مجدَّداً إِلى الجمعيّة العامّة للنظر فِي مسألة الاستقلال، وإِلى الجلسة الّتي تمَّ إقرار انعقادها فِي خريف نفس العَام، فعرض مشروع الاستقلال فِي الجلسة رقم «250» فِي الدورة الرَّابعة للأمم المتَّحدة يوم الإثنين الموافق 21 نوفمبر 1949م، فنجح المشروع وتمَّ إقرار استقلال ليبَيا بأغلبيّة «49» صوتاً ضدَّ لا أحد، وامتنعت «9» دول عَن التصويت. أصدرت الأمم المتَّحدة فِي 21 نوفمبر 1949م قرارها التاريخي رقم «289» الّذِي أيد حق الِلّيبيّين في استقلال بلادهم فِي موعد أقصاه شهر يناير 1952م، وكُوِنت لّجنة لتعمل على تنفيذ القرار الأممي ولتبذل أقصى الجهد مِن أجل تحقيق استقلال كامل التراب الِلّيبيّ ونقل السّلطة إِلى حكومة لّيبيّة مستقلة يرضى عنها جموع الشّعب.
تمّت تلبية كافـة اشتراطات الأمم المتَّحدة بما فيها اختيار أعضاء الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة وإنجاز الدستور والتقيد بالمدة الزمنيّة الواردة فِي القرار الأممي والّتي لا تتجاوز شهر يناير 1952م، فاختيرت اللّجنة التحضيريّة أولاً، وقد تكونت مِن واحد وعشرين عضواً، ثم الجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة، وقد تكونت مِن ستين عضواً، عشرين عضواً نصيب كل إقليم مِن أقاليم البلاد الثلاثة: «طرابلس وبرقة وفزَّان»، والّتي سنت الدستور وقامت بتشكيل الحكومة المؤقتة فِي 29 مارس 1951م برئاسة محمود أحمَد ضياء الدَّين المنتصر، وتسلمت السّلطات مِن الدولتين القائمتين على ليَبيا «بريطانيا وفرنسا» طبقاً لما جاء فِي المادتين الثانيّة والثالثة مِن القرار «289» الخاصّ بالاستقلال، وفِي آخر جلسة للجمعيّة الوطنيّة التأسيسيّة تمَّ إصدار قانون الانتخابات، وكان ذلك فِي يوم 6 نوفمبر 1951م.
وفِي يوم 7 أكتوبر 1951م، صدر الدستور، وكان ذلك قبل إعلان الاستقلال، حيث أُعلن الاستقلال يوم 24 ديسمبر 1951م مِن شُرفة قصر المنار بمدينة بّنْغازي، وبذلك نفذت القوى الوطنيّة الِلّيبيّة كافـة الاشتراطات الأمميّة بما فيها قانون الانتخابات والاشتراط الزمني، حيث تمَّ الانتهاء مِن كُلِّ شيء قبل انتهاء المدة المنصوص عليها فِي القرار.
ولأن الآباء المؤسسين كانوا يوعون أهميّة التاريخ، ويدركون كيف تبنى الأوطان، فالأوطان تبنى على أسس التراكم وثقافة التسامح والتصالح والاعتراف بالجميل لا ثقافة الجحود والكراهية والحقد والحروب، اعتبروا المعارك السّياسيّة الّتي حققت مكاسب وطنيّة، لا تقل أهميّة بتاتاً عَن الانتصارات فِي المعارك الحربيّة، وشأنها تماماً شأن المواجهات العسكريّة فِي حرب التحرير، فخلدوا يوم قرار هيئة الأمم المتّحدة باستقلال ليبَيا، ويوم إعلان الاستقلال، مثلما فعلوا مع يوم تأسيس الجيش الّذِي ساهمت قوَّاته فِي معظم مراحل القتال تحت رايته المستقلة إِلى جانب قوَّات الحلفاء، وخاض معارك ضَارِيَةً، منذ معركة سيّدي البرّاني فِي نوفمبر 1940م إِلى آخر المعارك الّتي توجت بدحر قوَّات المستعمر الإيطالي وخروجها مِن كامل التراب الِلّيبيّ.
وتخليداً لذّكرى الاستقلال وتكريماً للآباء المؤسسين والرجال الّذِين بذلوا أرواحهم ودماءهم مِن أجل ليبَيا والِلّيبيّين، اعتبرت المملكة الِلّيبية قرار هيئة الأمم المتّحدة باستقلال ليبَيا عيداً وطنياَ، حيث جاء يوم الواحد والعشرين مِن شهر نوفمبر ضمن أربعة أيّام فِي السنة، مدرجة كعطلات رَسميّة طبقاً للقانون رقم «8» الخاصّ بِالعطلاتِ الرَّسميّةِ لسنة 1953م، وبينت المادة «5» مِن القانون المناسبات الدينيّة والوطنيّة المنصوص عليها كعطلات رسميّة فِي جميع أنحاء البلاد، وهي:
* رأس السنة الهجرية
* عيد المولد النبوي الشريف «12 ربيـع الأوَّل»
* عيد الفطـر المبارك «1، 2، 3 شوال»
* النصف الأعلى عَن كل مِن الأيّام «15 محرم، 26 رجب، 14 شعبان»
* عيد الأضحى المبارك «9، 10، 11 من ذي الحجة»
* يوم تأسيس الجيش «9 أغسطس»
* عيد الدستور «7 أكتوبر»
* عيد قرار هيئة الأمم المتّحدة باستقلال ليبَيا «21 نوفمبر»
* عيد الاستقلال «24 ديسمبر»
وختاماً، صدر «قرار الاستقلال» فِي مثل هذا اليوم الموافق 21 نوفمبر منذ تسعة وستين عاماً، وإذ نقف اليوم أمام هذه الذّكرى الغاليّة على قلوبنا وهذا الحدث التاريخيّ العظيــم، لابُدَّ أن نؤكد أن الآباء المؤسسين وجيل الطليعة وقتئذ شرعوا فِي صنع ليبَيا العصريّة، وأن انقلاب سبتمبر 1969م هُو مَنْ أجهض مشروعهم العظيم، ونذكر إدْريْس السّنُوسي الأمير والمَلِك والّذِي جَاوزْنَا بأنفاسِه كل المحن والكروب، بصفته القائد الّذِي أدار المعركة فِي جانبها أو شقها العسكري والسّياسي، والأب المُؤسس للدولة الِلّيبيّة، لنستخلص مِن سيرته ومواقفه وأسلوب عمله بعض الدروس والعبر لنستضيء بنورها الوهاج فِي هذا الظرف البائس الّذِي نمرّ به، وفِي هذا العصر الّذِي تكالبت فيه بعض الدول والقوى العظمى على أمتنا الِلّيبيّة.
ولا نملك ونحن نقف أمام هذه الذّكرى الخالدة إلاّ إعادة التأكيد على أن الحركة الوطنيّة الِلّيبيّة فِي مسيرتها الطويلة فِي زمن حرب التَّحرير وولادة الدولة الِلّيبيّة، ليس لها مثيل أو قلما نجد لها مثيلاً، فِي تضحياتها ومرونتها وصلابة موقفها، وفِي انفتاحها ووعيها وموقفها المبدئي، وفي إنجازاتها وتجرّد ونبل واستقامة ونزاهة مَنْ قادها. ونؤكد ونحن فِي هذا الصدد، على أن سبب الانحراف والبؤس الّذِي وصلنا إليه اليـوم، يرجع فِي بعض أسبابه إِلى تجاوزنا إرث الأجداد، واستهانتنا بتاريخنا الفخم العظيم نظراً لجهلنا به وعدم إعطائه حق قدره، أيَّ المكانة الّتي مِن المفترض أن يكون عليها ويحظى بها، غير مدركين أن «مَن ليس له ماضٍ، ليس له حاضر ولا مُسْتقبل» .
كل عام والجميع بألف خير…
) هذه المقالة نشرتها العَام الماضي بتاريخ 21 نوفمبر 2019م ، فِي الذّكرى السبعين لقرار الأمم المتَّحدة بشأن استقلال ليبَيا، فِي صفحتي بالفيسبوك، ونشرتها فِي العَام الّذِي سبقه بتاريخ 21 نوفمبر 2018م فِي صفحتي بالفيسبوك أيْضاً، ورأيت مِن المهم إعادة نشرها اليوم بمناسبة الذّكرى الواحدة والسبعين لقرار الاستقلال، لتعميم الفائدة وزيارة التأكيد على نفس مَا جاءت فيها مِن وقفات ومفاهيم، نظراً لأهمية ذلك، والحاجة الماسة لتثبتهما لتبقى محطّات هذا القرار التاريخي راسخةً فِي الأذهان.