رَصَـاصَـتـَانِ بِـرَسْمِ الْـغِـيـَابِ

رَصَـاصَـتـَانِ بِـرَسْمِ الْـغِـيـَابِ

قصة قصيرة :: محمد مسعود 

خارجاً من مقهى بمحلة “أقعيد” عند العمارات المقابلة لمركز شرطة سبها المدينة ، كان ذلك الشاب النحيف داكن البشرة عندما رمقته ، حدّق بي ملياً بل وتمادى شاخصاً بتحديه لفعل النظر حتى اضطرني أن أشيح بنظري عنه بعيداً كي أنهي مهزلة التحدي لصعلوك يرمقني شزراً ، ذلك لأني تشبعت كثيراً بروائح الكره التي كانت تضوع وتدك الأرجاء ، ربما هو فعل ذلك كردة فعل لا إرادية حين شعر بي أرمقه شزراً أنا الآخر . قميصاً داكناً اللون كان يرتدي و بنطالا من الجينز الملون ، بدا لي وكأن ثمة خطوطا محفورة بقماش البنطال بلونه البني الداكن على ما أذكر . استعرض بعضا من الفحولة وهو يشيح مؤخرة قميصه القصير ليبرز مسدسا أسودا سرعان ما تناوله وصار يستعرض به تباهياً . يمينا عند استدارتنا ، كان يقابلني مبنى فرع المصرف المركزي الأبيض الأنيق ذا التصميم الجميل بسوره القصير وأبوابه ونوافذه الزجاجية التى صارت تتوارى خلف شبابيك حديدية تسمح بالرؤية ، كل المبني إجمالاً ما عادت غير واجهته تقابل المارة بابتسامة ساخرة بعد أن صار سوره من أضلعه الثلاث المتبقية يمتشق العلو فتضيع تفاصيل المبنى وجمالياته . طريق فرعي مرصوف ما عاد للإسفلت مكان فيه ، هو كل ما يفصل ذلك المبنى عن حديقة أثرية قديمة من عهد مضى أسياده ، وكان الخضار الذي يوحي به العشب الأمريكي المستورد الذي صار يغزو كل حدائقنا ووجدناه مقنعا كطائرة “البوينغ” التي ما تطاول على رفاهيتها من شركات الطيران حتى تلك التي تجمعت فيها دول . مقابلة لتلك الحديقة المتواضعة تماماً ارتفع مستوى بصري قليلاً فجالت بذاكرتي صورة لطفل بالزمن الغابر كان يرافق والده بسيارته الحمامة الكلاسيكية بيجو 404 وهي تصطف بالمقربة من باب ذو مصراعان ، كل ما راعى انتباهه أن ذلك الباب عكس كل الأبواب المعتادة ، إذ أن درفته اليمنى هي الثابتة وتفتح فقط عند اللزوم بينما تستخدم درفته اليسرى للولوج والخروج ، فوق كلا الدرفتين كان ما يشبه القوس الحديدي ذو قضبان حديدية مدت إلى حافة أطراف قطر نصف دائرة من مركزها ، تماماً وكأنها نصف قرص الشمس تبعث أشعتها من المنتصف إلى الأطراف . بذلك الوقت ما كان يوحي ذلك المبنى بغير مقر إقامة الطالبات بمعهد التمريض ، وما تسللت مطلقا بعض من نفحات قصر عابدين منه وما استرعاني مطلقا أي نوع من الإبهار ، فقط جدران سميكة لا جمالية فيها ، رغم أنهم يزعمون أنه كان مقر والى ولاية فزان ، وأن أمور رعيته كانت تدار من هذا المبنى !. لكن الحكم والولاية الآن يصار لكومة من القمامة والقاذورات يحيط بها سياج إسمنتي ليس بالطويل فقط يحد المكان الذي ما عاد له أثر سوى بمخيلة ذلك الطفل . كان بعجلات أربع ، عجلتان كبيرتان بالمؤخرة وعجلتان صغيرتان بالمقدمة لزم التوازن ربما ، دُفع حتى رصف قريبا مني ، تمسكت به جيداً فيما كان من يساعدني يسحبني لأستقر عليه وعاد يدفعني من الخلف ، نزولاً لمركز العلاج الطبيعي بمصحة الضمان الاجتماعي ، الكائنة بالدور تحت الأرضي بالمبنى حيث كنت أمارس العلاج الطبيعي. عند المنحدر ما كان وجه ذلك الفتى ليفارق مخيلتي وأنا أحاول ربما أن أقنع نفسي إنه ذات اللص الذي هشم ساقيّ برصاصات أرقدتني لأكثر من عامين ، الظلمة وعلامات التمويه التى اعتمدها ولونه الداكن فقط جعلاني لا أجزم بشخصه . احتسى علبة الكوكاكولا وهو يخرج من ذلك المقهى وقد كان على ما يبدو يتناول فطوراً بشاورما الشواء التركية ثم قذف بها أمامه – صندوق القمامة البلاستيكي أصفر اللون كان يساراً بمدخل المطعم ماثلاً – فراحت عند أطراف الطريق الترابي تتقافز وتسقط عند كومة من الحجارة هناك بالضفة الأخرى من الطريق ، كان بتلك الأثناء كل ما يشغلني ما الذي جعله يكف عن قتلي بعد أن أجهز عليّ وأسقطني أرضاً لكن غروره وطغيانه جعلاه يرفع مسدسه للسماء ويطلق رصاصتين بالهواء لتكون شاهدتي عليه ، لكن مجرد استعراض كل ذلك القبح والتراجع الكبير بمفاهيمنا يجعل من السخف التفكير بالمصير الذي آلت إليه رصاصتان أطلقهما لص آبق وقت تغوّل قبحه وتراجع آدميته .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :