قصة قصيرة :: المهدي جاتو
(( فلسطين المحتلة ـ غزة ـ شتاء ـ نهاية 2008 بداية 2009 ))
جلست الأم في منزلها وبجانبها أبنيها ، وعلى وجهها أحتفر الزمن أخاديد وعقد الظلم بالمعاناة حاجبيها حتى أنها بدت كعجوز ارتحلت بها السنين بعيداً ، تتأمل في صمت أحياناً تلك الصور المعلقة على الحائط لتقف الدمعة في مقلتيها حائرة ما بين الفرح والحزن ، الفرح بنيل الشهادة والحزن بفقدان الأعزة ، لكن سرعان ما تنزل الدموع لتبدد معها شبح الأحزان الجاثم على النفس لتعود دورة الحياة وسرعة النبض أقوى من ذي قبل .
العدو عندما أختار فلسطين لتكون أرض الميعاد ، حطم بذلك كل القوانين والمكوس والشرائع ولم يفرق في زحفه الجنوني بين صغير وكبير ولا بين رجل وامرأة ولا بين مدني وعسكري ، حرك آلة الدمار .. حطم وكسر ودمر وأشعل النيران .. فهناك من صفق له وأيده ومن لم يجرؤ على التصفيق ، أسدل الستار ليكون على عينيه غشاوة .
(عليّ ) صبي في الثانية عشرة من عمره ويكبر أخيه الذي لا يزال يرضع ، ولم يعي بعد حقيقة وجوده على أرض هوائها الدخان وزادها الدماء ، جراء الاحتلال الصهيوني لأرض الأسلاف .
نظر الابن الأكبر في عيني أمه التي ألتقط منها لحظة التأمل في الصورة وشاهد عن قرب تلك الدمعة الرقراقة وهي تجسد الألم الرابض بينها وبين الصور المعلقة على الجدران المتصدعة اثر القصف الإسرائيلي على البلدة ، فتساءل الولد عن الوالد ، وعن كل أفراد العائلة المتوفيين ، كما تساءل عن سر هذا الغزو الذي يفقد الإنسان إنسانيته .
سكتت الأم قليلاً .. ابتلعت اللعاب ومسحت بمنديلها الدموع ، واستمرت في حديثها مجيبه على تساؤلات أبنها قائلة له ( يابا دولا شهداء هما عند ربهم في الجنة ) .
أضاف علي بصوته العذب : ــ ( يعني إيش شهداء ) .
الأم : ــ ( شهداء لأنهم قدموا أرواحهم في سبيل الله ودافعوا عن وطنهم ، وشرفهم ، وكل هالجنود إللي أنت شايفهم يكتلوا في الناس هما أعدائنا وأعداء الله ) .
الابن : ــ ( طيب هما ما عندهمش وطن حتى يجوا يأخذوا أرضنا ويكتلونا ) .
الأم : ــ ( هادول غزاة جابتهم إسرائيل من بعض الدول ) .
وقبل أن تكمل الأم ، نظرت إلى التلفاز ، وإذا بالمنجمة تدلوا بدلوها بتكهنات للعام المقبل 2009 ، حيث قالت بأنه سيكون هذا العام عام حروب وعام متناقضات وعام غرائب وقبل أن تكمل المنجمة ذات الماكياج الصارخ والبنطلون الضيق والصدر النافر العاري سألتها المذيعة .
ماذا تعنين بالمتناقضات والغرائب ؟
أجابت بعد أن أزاحت الخصلات الذهبية من وجهها الملون .. بعضها بدأ في الحدوث من هذا العام مثل قذف الرئيس الأمريكي بوش الابن بالحداء .
لم يكمل الرضيع رضاعته عندما وضعته أمه أرضاً وهو يطلب المزيد من الحليب الذي شح من صدرها ، تناول (علي) قطعة من الرغيف وقبل أن يتم مضغها أنقطع التيار وبالتالي انقطعت المياه ، في الصباح أدركت من خلال أنباء الجيران بأن كل قطاع غزة في حصار شديد حيث أغلقت المعابر أيدانا ببدء محنه جديدة لم تكن أفضل من التي سبقتها حيث حصدت العديد من الأرواح .
في كل يوم تتحرك الآلة الإسرائيلية براً وجواً لتقصف المدينة ، فحصدت الشهداء .. قتلى هنا وقتلى هناك .. أشلاء .. رؤوس .. دماء .. مباني متهدمة .. أدخنة .. صوت طائرات يمزق الفضاء .. لكن الجنود البواسل في المقاومة لم يهنوا ، بل زادت إرادة القتال عندهم أضعاف مضاعفة وهذا ما زاد من حيرة العدو .
أضطرت الأم ترك رضيعها في البيت وحيداً لكي تعب الماء من ( حنفية ) قريبة خارج البيت تخر ببطء شديد ذلك المعدن الثمين في طابور طويل يجمع البائسين والثكلى ، بينما أرسلت (علي) إلى المخبز الواقع في ضواحي رفح .
عبر (علي) الشارع الضيق صحبة رفيق ألتقاه في السبيل الواسع المؤدي إلى المخبز وإذا بالجنود الإسرائيليين يلقون بالقبض على كل من يصادفهم ، ووجد جمع من الثائرين يرمون العدو بالحجارة ، فوجد نفسه بلا شعور يرمي بالحجارة هو الآخر ، متذكراً كلمات أمه الراسخة في ذهنه التي هي كلمات الأرض أو نداء الوطن الجريح أو ربما تكون رائحة النزيف أثارت في نفسه موقد النيران .
فجأة أندهش عندما شاهد الجندي الإسرائيلي يسقط على الأرض دون حراك من أثر رمية صوبها نحوه ، فأصابت مقتله ، فأنتاب الغضب على الفور الجندي الآخر ، فصار يرمي برشاشة أطلاقات في أي اتجاه ، وهو في حالة شديدة العصبية ، تستر (علي) داخل أول زقاق صادفه ، تبعه الجندي على الفور وهو يركض بحذر ، لكن (علي) اختفى عن نظره وما أن وصل إلى أمه القلقة حتى أخبرها بما جرى والدماء تسيل منه احتضنته بشده قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة و هي تنادي ألله أكبر ، الله أكبر ((ما رميت إذ رميت لكن الله رمى )) أغمض عينيه والأبتسامه تعلوا شفتيه .
شوهدت أم علي لآخر مره في التلفاز وهي تصرخ بحدة (( وينكم يا عرب ـ وينكم يا مسلمين )) .