- نوري المزوغي
خلال الحرب الأهلية الأولى في الإسلام التي اشتعلت عقب مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وعرفت تاريخيا بــ الفتنة الكبرى انقسم المجتمع الإسلامي بكل مكوناته – تقريبا – بشأن الخلافة / السلطة إلى طرفين متنازعين ثم إلى معسكرين متقاتلين ، ولم يعر الجميع أي اعتبار للروابط الدينية أو الاجتماعية أو غيرها .
فقد انغمس صحابة رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” في تلك الفتنة فاصطف عمار بن ياسر وعبدالله بن العباس وأبو موسى الأشعري في الصف المقابل لصف عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وطلحة والزبير ، كما تقاتل أبناء القبيلة والعشيرة بل العائلة الواحدة فيما بينهم للسبب ذاته وهو السلطة . قد يقول قائل إن تلك الأحداث الدامية كانت لها أسبابها وملابساتها الغائبة – أو التي تم تغييبها – عنّا ، وقد يركن البعض إلى جدلية التأويل مستشهدا بالمقولة الشهيرة المنسوبة لعمار بن ياسر مخاطبا الأمويين “بالأمس قاتلناكم على تنزيله ، واليوم نقاتلكم على تأويله ” ، بينما قد يذهب آخرون إلى ما ذهب إليه الأديب العربي الكبير طه حسين الذي خلص في كتابه “الفتنة الكبرى : عليّ وبنوه ” إلى أنها كانت مواجهة في الآراء تحولت الى ما تحولت إليه ، وبالتالي فإن للجميع أعذارهم ومبرراتهم .
ولهذا ينبغي أن ننأى بأنفسنا عن الإبحار فيها أخذا بقول الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز : ” تلك دماء طهر الله منها يدي فلا أحب أن أخضب بها لساني ”
. وكما أشرنا ، لسنا هنا بصدد تقديم تقييم شامل لتلك الأحداث أو استعراض تفاصيلها الموجعة ، وإنما نود التعرض للحظة فارقة من عمر ذلك الصراع المرير ، إنها لحظة يمكن وصفها بلحظة الاستفاقة / الصحوة .
وهي اللحظة التي وصل فيها المتقاتلون – وبالأصح بعضا منهم – إلى نقطة إعادة التقييم الجذري لما هم منغمسون فيه وفق معطيات منطقية لم تكن حاضرة عند اشتعال الفتنة بسب الغشاوة / الضبابية التي عادة ما تصاحب مناخات الحروب والفتن الأهلية وتكون سببا في توجيهها ومفاقمتها . أغلب المصادر التاريخية التي تناولت وقائع الفتنة الكبرى وأدبياتها لم تتوقف عند هذه اللحظة ولم تشر إليها مباشرة – لسبب أو لآخر – وإنما أوردت بعض الشواهد عنها ضمن سياقات عامة . فالمؤرخ نصر بن مزاحم ينقل إلينا في كتابه “وقعة صفّين ” رواية ، بل مشهدا دراميا ، عن اقتتال فرعي قبيلة خثعم ، خثعم الشام وخثعم الكوفة ، في موقعة صفّين وتواجههما وجها لوجه كما هو الحال لبقية القبائل الأخرى ، حيث حرص قادة المُعسكريْن المتقاتليْن عند تنظيم صفوف جيوشهما خلال المعارك على وضع فروع القبائل الواحدة بكلا الطرفين وجها لوجه وذلك بغية إذكاء حميّة القتال من ناحية ولتفادي مسألة الأخذ بالثأر بين القبائل المختلفة من جهة أخرى .
تقول الرواية : { إن عَبْد اللَّهِ بْن حنش الخثعمي كَانَ رأسا لخثعم مع مُعَاوِيَة بصِفّين ، فأرسل إلى أُبَيْ بْن كعب الخثعمي رأس خثعم مع علي : إن شئت توافقنا فلم نقتتل فإن ظهر صاحبك كنا معه ، وإن ظهر صاحبنا كنتم معنا ، ولم يقتل بعضنا بعضا ، فأبى أَبُو كعب ، فلما دنا الناس بعضهم إِلَى بَعْض التقت خثعم وخثعم ، فقال عَبْد اللَّهِ بْن حنش : يا معشر خثعم ، قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة صلة لأرحامهم ، وحفظا لحقهم أبدا ، ما كفوا عنكم ، فإن قاتلوكم فقاتلوهم ، فقال رجل من أصحابه : قد ردوا عليك رأيك ، وأقبلوا يقاتلونك ، فغضب عَبْد اللَّهِ بْن حنش وَقَالَ : اللهم قيض له وهب بْن مَسْعُود ، رجلا من خثعم الكوفة كانوا يعرفونه بالبأس فِي الجاهلية ، فدعا الرجل إِلَى البراز ، فخرج إِلَيْهِ وهب بْن مَسْعُود ، فحمل على الشامي فقتله ، ثم اقتتلوا قتالا شديدا .
قَالَ : وحمل شمر بْن عَبْد اللَّهِ الخثعمي من أهل الشام على أُبَيْ بْن كعب رأس خثعم الكوفة ، فطعنه فقتله ، ثم انصرف يبكي ، ويقول : رحمك اللَّه يا أبا كعب ، لقد قتلتك فِي طاعة قوم أنت أمسّ بي رحما منهم ، وأحب إلى نفسا منهم ، ولكن والله ما أدري ما أقول ، ولا أرى الشيطان إلا قد فتننا ، ولا أرى قريشا إلا قد لعبت بنا … }. لقد كانت عبارات شمر الخثعمي الأخيرة تأكيدا للحظة الاستفاقة التي عبر عنها عبد الله بن حنش في عرضه المشار إليه حيث أظهرت أن كثيرا من المتقاتلين في معسكر الشام باتوا ينظرون إلى الصراع القائم نظرة مختلفة وأنه صراع على السلطة يصب في نهاية المطاف لمصلحة قريش المضرية كون عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان قُرشِيّان .
وقد تجلت هذه النظرة أيضا في معسكر العراق عند اتفاق الطرفين على التحكيم حينما عارض أتباع الإمام عليّ اختيار عبد الله بن عباس ليمثلهم في التحكيم مقابل عمرو بن العاص ممثل معاوية قائلين :” لا يحكم فينا مُضريّان.
وقد لا نكون مبالغين إذا ما زعمنا أن تلك الاستفاقة كانت أحد الأسباب الرئيسة التي أدت في النهاية إلى توقف أحداث العنف بعد تنازل الحسن بن عليّ عن الخلافة ودخول الدولة الإسلامية مرحلة جديدة من الاستقرار . ختاما … نأمل أن نرى هذه اللحظة ، لحظة الحقيقة ، تعاش واقعا في بلدي لتكون بداية النهاية للمأساة التي تكتنفنا أرضا وشعبا . قال الشاعر : الـــــدّهــرُ آخـــرُه شبْهٌ بأوّلــــهِ ……. ناسٌ كنــــاسٍ وأيّــــامٌ كأيّــــــامِ.