- عبدالرحمن جماعة
في بعض الأحيان لا تكون معطياتك كافية لإصدار حكم، وفي أغلب الأحايين لا تكون صالحة حتى لتكوين مجرد انطباع على شخصٍ ما أو قضيةٍ ما! يُحكى أن رجلاً وجد حدوة فرس ملقاة على الأرض فقال: “لم يبقَ إلا ثلاثة والفرس”! إن أغلب الأحكام التي نُصدرها هي أشبه بمن وجد شعرةً من ذيل أسد فظنَّ أنه أمسك بالأسد! كثير من الناس ينتقدون علماء ومفكرين وأدباء وهم في أحسن أحوالهم لم يقرأوا شيئاً لهذا العالم وربما ولم يقرأوا حتى عنه!.
يقولون: “لا تحكم على الكتاب من عنوانه”، لكننا نتجرأ أحياناً فنحكم على عالم من العلماء ألَّف عشرات الكتب ونحن لم نرَ عنواناً واحداً من عناوين كتبه!. جرب من نفسك؛ فقد تتعرض للنقد من آخرين: لِمَ تفعل كذا؟! أو لِمَ لا تفعل كذا؟! وهذا الناقد لم يجلس معك سوى جلسات معدودة، ولم يرَ منك إلا ما أظهره الله، ولا يعلم شيئاً عن الكم الهائل من المعطيات التي تبرر الفعل أو تمنع من الفعل، وأنت تجد نفسك مكمماً لا تستطيع حتى الدفاع والتبرير بسبب أن جلَّ تلك المعطيات هي على درجة كبيرة من الخصوصية، في حين أن المعطيات القليلة التي صرَّحتَ بها لا تُقنع الطرف المقابل، ولذلك تجده يُمعن في حشر أنفه فيما لا يعنيه والتفلسف ظناً منه أنه قد أمسك بالأسد من ذيله، وهو لا يُدرك أن ما في يده ليس الأسد ولا ذيله وأنما شعرة انتهت مدة إقامتها على ذلك الذيل، ولولا مغادرتها لذلك الذيل لما تجرَّأ أن يلمسها فضلاً عن أن يُمسك بها!.
إن الناس صناديق مقفلة فلا يتراءى لك منها إلا سطحها، فكم من صندوقٍ قديمٍ صَدِئ يحمل في جوفه كنوزاً وجواهر، وكم من صندوق مزخرف مزركش وهو فارغ تماماً!. دخل النخارُ العذري على معاوية في عباءةٍ؛ فاحتقره معاويةُ، فرأى ذلك النخار في وجهه، فقال له: يا أمير المؤمنين، ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها. ثم تكلم فملأ سمعه، ثم نهض ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقرَ أولاً ولا أجل آخراً منه!.
إن التسرع في إصدار الأحكام ليس من شيم العقلاء، بل هو خيانة للعقل، هذا فضلاً عن أن تلك الأحكام السريعة لا تكون صادرة عن عقل، وإنما عن رغبة نفسية ومشاعر سلبية تفرض على صاحبها أن يقول ما قال وأن يحكم بما حكم!. يُمعن بعض الناس في إبراز عيوب غيرهم لا لشيء إلا لأنهم يكرهونهم أو يحقدون عليهم أو يحسدونهم فكما قيل في المثل الشعبي: “اللي يكرهك يحلملك الحلمة الشينة”، فالحلم هو فعل لا إرادي، وبفعل طاقة الكره تتحول كل أفعال الكاره حتى اللاإرادية منها إلى سهام موجهة ضد المكروه، وقد قال الشافعي – رحمه الله – : وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ.. وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا.
لذلك لا تهرول إلى الحكم سريعاً، بل أبعد مقص الحكم عن متناولك، فقد قيل في المثل الشعبي: “القياس ديما والقص مرَّة” لأنه يُمكنك إن تُعيد القياس حتى ولو أخطأت فيه ألف مرة، لكنك أبداً لا يُمكنك أن تعيد القص ولو لمرة واحدة!. ولذلك أيضاً.. لا تتحدث بلا علم، ولا تهرف بما لا تعرف، ولا تتطفل على اختصاصات الآخرين وخصوصياتهم فقد يُحرجك أحدهم فتقع من أعلى غرورك وغطرستك إلى أدنى واقعك وحقيقتك!. …………… والله المستعان!