قصيرة قصير : محمد عبد الوارث :: مصر
يصر ” أحمد ساتى ” على مناداتى بأستاذ محمد عبده . رغم علمه الأكيد بأن أسمى هو محمد عبدالواحد . وأين أنا من محمد عبده …..!!
” أحمد ساتى ” النوبى سائق المشروع الذى تقوم شركتى بتنفيذه قرب مدينة أبو سمبل ، علاقته بالجميع طيبة ، إلا أنه ومنذ وصولى من الإسكندرية شاباً طامحاً .!
يؤثرنى بخصوصية فى المعاملة ، خاصة أننا كنا نسير فى العقد الثالث، هو يسبقنى أنا أسبقه لا فرق . ولى لون أسمر يتلاقى مع سمرته التى كانت أكثر دكنة . ورغم ملاحته وطيبته تلك الطيبة التى لا أحسب أن هناك أحد ما يكره أن يوصف بالطيبة!
“أحمد ساتى” فى الأماسى عليلة النسمات ،يأتى للجلوس معى فى المعسكر الذى لا يبعد عن منزله إلا أمتارا قليلة .. نتسامر معاً ، ربما لما رأنى أميل للوحدة . فيحكى لى عن نفسه وأسرته . وأحكى له عن ذلك الشاب الذى هجر مراتع اللهو والمرح بشواطىء الإسكندرية ، ليأتى مع شركته المنوط بها إنشاء قناة ” السادات ” التى ستقوم فى حالة فيضان النيل بتوصيل جحافل الماء إلى منخفض “توشكى ” الشاسع ، حتى لايصاب جسم السد بالتصدع والأنهيار … ويرد على أستغرابى الشديد كيف أعتاد أن يعيش هذا الشاب فى هذه المدينة النائية، رغم شهرتها فى ذاك الوقت ، لمعبدها الذى أنقذ من الغرق، ورفعوه ستين مترا فوق سطح النيل. حتى مستشفاها الوحيدة تشبه وحدة صحية تغلق أبوابها عند الثانية ظهراً . دائما يبدى إعجابه بتلك الآية كوفية الخط والمعلقة فوق رأسى ( ولايجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ).يسألنى عن معناها أبتسم ولا أرد ..
” أحمد ساتى ” البارحة أسر إلى بهمس لم يسمعه
إلا هو ..بموضوع أثار أهتمامى وجعلنى شغوفا لكشف سر هذا الموضوع . ربما لأننى لم أصدق ما يحكيه ؛ وإن كنت أوقن بمدى صدقه .. لكننى ليلتها شاغلنى صوت أم كلثوم بأغنيتها” أغار من نسمة الجنوب ” فتباعد الموضوع إلى حين.
مقابلة 1
قررت أن أراها .. رافقنى أحمد ساتى بالسيارة اليابانية التى تعرف خبايا الصحراء جيدا . الشريط الأسفلتى المتثعبن والمحاط بكثبان رملية صفراء اللون داكنه وفاتحه .
يتلوى أسفل الإطارات . بعدنا عن المعسكر حوالى عشرة كيلو مترات . والشمس تعانق كل المرئيات . على الطريق وعند منطقة معمورة بمئات من البراميل السوداء الموشاة ببقايا القار والوهج الشمسى . تحيط ” عشة ” بنيت ببقايا اخشاب البناء والصفيح الصدىء .. يمر الهواء اللافح وذرات الرمل بين شقوقها التى لاتخفى عن العين . توقفنا قرب هذه ” الحجرة ” التى تقف كنصب تذكارى وسط مئات من الجنود والاتباع .. كان يداخلنى شعور غامض مما انا مقدم عليه . وان كان معى حماسى الدفين يوجه لى دفة توجهى فى هذا الامر .. ارهف سمعى ، امسح بعينى المكان متوجسا .. لكن توجسى من نهاجم بحربة او سيف ، او يمطر علينا وابل من حجارة . للحظة سخرت من وساوسى . ونهرت نفسى. فاذا كنت متوجسا حقا . فلما اتيت ؟ قد اُسأل عن سبب وجودى هنا ؟ ام انا اروم فى هذا البلقع النائى ما قد يطفىء ظمأ وحدة تستعر تحت وطأة لظى هذا اللهيب الحارق فى الجسد .
الصفاء اللامنتهى يحتل المكان ، لايقطعه شىء سوى سياط اشعة الشمس. دنونا من باب هذا ” الكوخ ” اوقفنا السيارة امام باب ماليس له باب …! وجدناها مقرفصة ، تسند ظهرها الى جدار رقع الخشب والصفيح. لتواجه الشمس ولتمسح بعينيها مساحة المكان لترى كل ما يتحرك امامها .. فتاة افريقية وحيدة تخطت العشرين، مليحة التقاطيع لامعة الوجنتين والأنف والجبهة ،بازغة الصدر فى جلباب رجالى ذهب بياضه وأستبدل بلون الرمال الكالحة . ممزقة الأكمام وبدت ذراعيها قويتين متناسقتين لامعتين كأنهما دهنا بالزيت . تمسك بثوب ما أن رأتنى حتى أخفته جانبا. نهضت بخطوات واثقة نحوى ، كان أحمد ساتى قد بجوار سيارته وتركنى مكتفياً بالمشاهدة عن قرب وعلى شفتيه إبتسامة شبه ماكرة ..
رنت إلى ، تستفسر بنظرات تنقلها بينى وبين أحمد ، وبوجهها علامات إستنفار . نظرتها تفحصنى كما لو كانت تحسب حسابا لمقاومة ما .. وجدتها لاتشبه غالب الإفريقيات اللاتى يتميزن بالطول الفارع والقوام النحيف . هى تميل القصر فى إمتلاء ، ابنوسية البشرة ، فيها جاذبية خاصة ،وجهها أمامى جميلا . بأنف أفطس دقيق ، يتدلى قرط هلالى الشكل من أذنيها .تبدو لىكأننى أعرفها من قبل . لكن شيئا ما لا أعرفه ما زلت اخشاه . بمودة سألتها ؟
- تتحدثين العربية ؟ ردت بلكنة أجنبية واضحة :
-
أتحدث الفرنسية .
عاودت السؤال بشكل أخر ؟
- لا تعرفين العربية ؟ ردت بحروف عربية ثقيلة النطق .
_ عربى بسيط .
- وحدك فى هذا المكان ؟ – وهل ترى أحدأ معى؟
-
لا تخافين العقارب والثعابين ؟
-
الصحرا هنا أرحم من المدن ! هنا أمان ..
-
ما أسمك؟ نطقت إسماً أفريقيا طويلا بلهجة “سواحيلى ”
لم يعلق فى ذاكرتى منه إلا رنين حروفه . -
أتؤمينين بالله ؟ وأشرت إلى السماء ..
-
أمر لايهم غيرى …!
-
………………؟
-
حصلت على ليسانس الحقوق من السوربون .
أدركتنى الدهشة وأزداد التوجس داخلى نظرت إلى عينيها النجلاوين . قلت متحيراً ..
- ولما هذا التعب ؟
-
للمبدأ !
-
أى مبدأ هذا الذى يقذفك فى هذه النار ؟ كنت قد أحسست تعاطفا معها مخلوطا بحيرة وأستغراب فلم أنتظر منها ردا ً، وإن كان التوجس الذى بداخلى قد خف أو أوشك على الذوبان.
-
هل تودين شيئاً منا ؟
بثقة أجابت – خذنى إلى شط النهر .
صعدت وجلست بجوارى ، بضة ، دافئة ، ورغم الواقع فإن رائحتها لم تكن منفرة ، بل هناك أثر عطر منمحى. تلامس كتفانا بغير قصد ، لم تحاول الإبتعاد – مثلما يحدث فى هذه الحالات – أستراحت فى جلستها، صعد أحمد ساتى وأدار محرك السيارة لتعود ملاعبة ذلك الثعبان الأسفلتى المحاط بالكثبان .
عدت للحوار :
– من أنتِ ؟ كررت ذات الأسم الأفريقى الطويل مسجوع الحروف ، وأيضاً لم يعلق منه فى أذنى إلا رنين الحروف . قلت متابعاً :
- انا لاأقصد أسمك ؟ واصلت الإبتسام .
-
أنا ملكة .
-
………………..؟
-
ملكة مملكة إفريقيا .
رددت هذه الكلمات محرفة النطق وأنا أبتسم مما قالت، لكنها بجدية بالغة واجهتنى وهى تؤكد .
- نعم ملكة مملكة إفريقيا .أعقبتها بنطق الأسم بالأنجليزية
– ربما أدركت أننا معشر المصريين نعلم شيئاً عنها -،
كأنما لتؤكد لى ماقالت.
ثم صادقت الصمت …… فى مقعدى لايفتأ نظرى يتابع الطريق ونفسى تغرينى بفكرة جنون هذه المرأة ! وأحمد ساتى يستمع لحوارنا صامتا لاتفارق عيناه الطريق، ولاشفتيه الإبتسامة . قلت لها وأنا أحدد بدقة أهم ما قالته :
- لقد تكلمت عن المبدأ وملكة ومملكة إفريقية. لماذا جئتى هنا؟
–هو أمر لاأبوح به إلا له؟
التوجس داخلى يعاود التأرجح ،وخفة روح بدت تتصاعد إلى رأسى، والسيارة مازالت تأكل ثعبان الكثبان … باسما سألتها – من هو الذى ستبوحين له ؟
ضحكت وبانت اسنانها شديدة البياض والنظافة فى نسق جميل. ردت :
- السيد الرئيس .
قلت من فورى – الرئيس مرة واحدة ؟
- أليس افريقيا ؟
-
افريقيا نعم . هل قابلتيه ؟
-
منعونى عند الباب وأمرونى بالإبتعاد حتى لا أضار ..
انا لاأحمل جواز سفر.. على الطريق الأسفلتى الذى يشبه شاشة عرض . توالت رؤى وموسيقى الإطارات تغلف الرؤية .. دقلت طبول وحفل عرس مقام على ضفاف النهر. وعروس افريقية مشعة الحياة، ذات وجه مرءائى ، وعلى الثغر ابتسامة صافية تحرك ذلك الأمرد الذى يسكن الجوارح. وجِيد مشرع ثدياه فى وهج عارم من لظى أوار دقات الطبول والرقص الأفريقى المحموم برشاقة طيور وحيوانات الطبيعة . إحتفالية من صخب لونى على وجوه أقتبست من سباع الغاب وطيورها جمالها وخيالها . قوتها وعنفها . وتترى من الفضاء أرتال من صفائح مذهبة مخضبة بخطوط سوداء لتدفن العُرس والصخب وصفحة النهر ….
¯ ¯ ¯ ¯ ¯
- أين أوراقك الشخصية ؟ ردت :
-
عبرت بلا أوراق . عند حدود بلدى أغتصبوها ، وتركونى أعبر إلى السودان !!
وعند حدودكم تركونى أدخل . وهذه هى المرة الثانية لى .
- وسفارتك ؟
-
نعتونى بالجنون ، وهددونى . قلت لهم أننى ملكة افريقيا وأبنة النهر .. وهل يمر النهر بأوراق رسمية ؟
قلت مغيراً دفة الحديث :
- هل صحيح أنك تلعبين المصارعة ؟
أبتسمت مخفضة رأسها وهى تهمس :
- يقولون ذلك !
لم يريحنى الرد فلم أعاود السؤال .. وصلنا قريبا من حافة النهر ، توقفنا . هبطت وبوجه باسم شكرتنا . مد أحمد ساتى يده اسفل مقعده وأخرج بعض الثمار وارغفة الخبز البلدى وناولهم لها ، أخذتهم محيية بأيماءة رأسها .. أستدرنا بالسيارة تاركين هذه الإفريقية السوربونية البضة قوية البأس تسير وحيدة تخطو فى الرمال الملتهبة نحو النهر ، تحمل هما قد يعنيها أو يعنى أحداً أخر.. غبار السيارة أخفاها عن العين. عدنا للطريق .صامتين وربما تراودنى أنا وأحمد ساتى نفس الأفكار ….
فى داخلى تبدل التوجس إلى شىء يحاول الخروج . ربما إلى الطريق دائم السواد متجدد المسافات وكثبان الرمل الأصفر ما تزال تحيط به ..
قيل : عندما حاول أحدهم مداعبتها حتى يظفر بها ، أن روح مصارع تقمصتها ، فهاجت ، وأطاحت به ، ولولا أنه فر منها ، للقى حتفه .. ولما سئل عن سبب تواجده فى هذا الخلاء عند هذه الأفريقية الوحيدة .. أجاب بأنه أشفق عليها وأراد أهداءها أحد اثوابه المستعملة …
قيل: تنام فى العراء بموقع قديم مهجور لشركة كانت ترصف الطريق . وأنها لاتخشى ثعابين ” الطريشة ” التى ما أن تواجه أحداً حتى تقفز فى الهواء نافثة سمها فى وجهه .
ولا العقارب ذوات الأذناب المرفوعة ، دائماً للإنقضاض . وأنها تعشق هذا الخلاء ….
قالوا : قبض عليها. وأودعت المربع القضبانى الخانق. والجنود الجدد يسيئون إليها .
قالوا لى : مأمور المركز يريد أن يراك …… .
مقابلة 2
وقت العصر توجهت إلى المركز .ظابط هذا المركز علاقتى به حسنة – أو علاقة الشركة به ، فهى توفر له الوقود اللازم لعمل المركز طوال العام – ، وأنا كمشرف لموقع عمل فى المشروع ، دائم التلاقى معه .
فى ظل شجرة وارفة تظلل باب المركز ، وجدته يجلس واضعاً ساقاً فوق ساق . تتحلق حوله كوكبة من الجند إنتظاراً لأى أمر. نهض يستقبلنى بوجه باش ، وأجلسنى بمقعد يجاوره داخل دائرته . أمر أحدهم باحضار مشروب مثلج ..
بادرته قائلاً : – خيراً ..
قال: – قبضنا على الزنجية التى تعيش وحدها فى الخلاء بتهمة تخطى الحدود ، وعدم حمل جواز سفر أو أوراق قانونية للإقامة .. ثم قام ودعانى للدخول إلى مكتبه . حيث جلس على مقعده الجلدى الوثير ، تظلله فى الأطار المذهب الكبير صورة السيد الرئيس ذو “الزبيبة ” الداكنة التى تضيىء جبهته .. قلت :
- هل لى فى خدمة منك . قال : أؤمر ….
-
أطلق سراح هذه الفتاة وأتركها لى . رمقنى بنظرة متخابثة وهو يبتسم قائلاً..
-
وماذا تفعل بها يا رجل ؟
-
لا تسىء الظن بى فلست من هؤلاء ، ألا تثق بى .؟
رد مزموم الشفتين فى مكر : أثق …!
قلت له : أذن أطلقها ..
قبل أن تبزغ دوائر الفجر فى الأفق بشعاعاتها القرمزية. نقف وحيدين . فى مرفأ النهر . نسمات باردة تتمسح بوجهينا. هى ترتدى ثوباً نظيفاً ، موشى بزخارف افريقية ملونة. وتنتعل صندلاً رجالياً من الجلد ذى نقوش فرعونية . تتأبط صرة حاجياتها التى سبق وأرتنى إياها . فيها عقد من الخرز الأزرق ، كتاب صغير بالفرنسية . نقود معدنية مختلفة. لفافة ورقية مصفرة ذات شريط أرجوانى . مكحلة على شكل جنى . تاج من العاج حفرت عليه رسوم حيوانات وطيور . ثوب نسائى ربما كانت تدخره ليوم لاتعلم يقينا متى يجيىء . نظرت فى عينيها ، فأنسابت فى مسامعى أغنية موقعة بخرير الماء . وجدت كفيها البضتين القويتين تمسك يدى برقة ودفء وتميل نحوى تسألنى هامسة :
- هل تتزوجنى ؟
حرت فى الرد ! قلت مستفسراً : لماذا ؟
- حتى أعيش فى حرية و أحقق حلمى ..
تهربت من الإجابة . كنت حينها ما زلت موزعاً بين خاطرين لم أستقر على أحدهما قلت لها : لى زوجة فى مصر ..!! لم تترك يدى . ووقفت كتمثال فرعونى وحيد ينظر للماء الجارى .. كنت أنتظر بقلق ، أصيخ السمع لعل صوت باخرة قادمة من بعيد . أدقق النظر لعلى المح ضوءاً خافتا يتأرجح قادما فوق الموج . لم يكن لدى حينها شك فى أن شيئاً ما سيحدث . وظل أحمد ساتى يخايلنى جانب السور .. أسمع من بعيد دقات طبول . فأتذكر عروس النهر .. لمستنى مرة ثانية .. عدت للنظر قلقاً فى عينيها الواسعتين ، ونحن نسمع من بعيد صوتا كصوت نفير أثيرى بعيد لايأتى من صوب النهر . بل يبدو قادماً من الفضاء العريض ..