بقلم :: عبد الرحمن جماعة
سألت صديقٍ لي: لو أضفتُ ملعقة ملح للبحر هل يمكنني القول بأنني زدت البحر ملحاً؟
قال: أما من حيث محض الفعل فنعم، وأما من حيث التأثير.. فلا!
هذا الإجابة صارت تتنامى وتكبر ككرة ثلج، فتناسلت منها الأسئلة دون أن تلد ولو إجابة واحدة!
تخيل أنك تحمل سؤالك العقيم لتستبدله بإجابة واحدة، فإذا بك تعود بعدة أسئلة أخرى تضيفها على سؤالك الأول.
الأسئلة التي لا تولِّد إجابات هي كالإبل المئة ليس فيها ناقة واحدة، كل عام ينقص عددها ويزداد ربها فقراً، ولهذا قال الليبيون: “يا فقر ما غناك قعود”.
فما ينفع السؤال من السؤال، وما جدوى علامة الاستفهام التي لا تلد إلا علامة استفهام، وما فائدة السين إذا لم تعقبها جيم؟!
فالسؤال مشكلة والإجابة حل، والسؤال فقر والإجابة غنىً، والسؤال حاجة والإجابة كفاية، والسؤال وسيلة والإجابة غاية، والسؤال لا يستغنى عن إجابة أما الإجابة فلا تحتاج إلى سؤال!
نعود إلى إجابة صديقي التي أتخمتني بالأسئلة.
صديقي فرَّق بين تأثير الفعل، وبين محض الفعل، وهنا تكمن المشكلة.
المشكلة تكمن في حقيقة أن الفعل المجرد من التأثير لا قيمة له، وأن هذه الحقيقة تولد السؤال التالي: كم من أفعالنا له تأثير؟ أو ما مدى تأثير أفعالنا؟
الإجابة على هذا السؤال قد تكون مرعبة مخيفة إلى حد قد تجعل حياة الفرد منا لا تساوي ملعقة ملح في محيط متلاطم تذوب فيه دون أن تترك أي أثر أو تأثير!
ملعقة ملح لا تملح العذب، ولا تزيد المالح ملوحة.
ملعقة ملح في مكان يعج بالملح ويفيض بالملوحة.
يُقال: إذا أردت أن تعرف قيمة شيء ما فتخيل عدم وجوده!
في تأبين أحد الرؤساء العرب قال المؤبِّـن: إن الدنيا كالحة حالكة بدونه، وإن الناس لن يهنأ لهم عيش بفقده وغيابه.
لكن الناس أكلوا وشربوا ورقصوا وغنوا وتزاوجوا وتكاثروا بعده، ولم تكلح الدنيا ولم تحلك!
ذات يوم قال لنا مديرنا في إحدى المؤسسات: أنا باقٍ هنا لأجل المؤسسة، لأنني أخشى أن تنهار المؤسسة بغيابي.
وذات يومٍ آخر رحل المدير ولم يحدث أي انهيار في المؤسسة.. الشيء الوحيد الذي انهار في المؤسسة هو علاقته الغرامية بإحدى الموظفات.
لا زلت أذكر مدير المدرسة الذي قال لنا: “لو نغيب عنكم تزرق عليكم من مغرب” وحين غاب لم تتخلَّ الشمس عن عادتها في الطلوع من المشرق.
التأثير الذي أتحدث عنه هو التأثير الإيجابي، والذي يُحدث فرقاً ملحوظاً فيما حولنا، وفرقاً بين وجودنا وغيابنا، وبين الماضي والحاضر والأمس واليوم والقبل والبَعد!
التأثير المقصود هو تلك النقلة الإيجابية التي تقطع صلتك بالماضي وعلاقتك بالسابق كما أنهى مخترع السيارة علاقتنا بركوب الحمير، وكما أنهى مخترع المدفع علاقة المحارب بالمنجنيق، وكما أنهى مخترع المضخة علاقتنا بالدلو!
ذلك هو التأثير الذي كنا نبغي، وذلك هو الفعل الذي لم نستطع عليه صبراً، فبدونه حياة المرء كحياة سمكة تسبح في الماء دون أن تترك أثراً فيه أو عليه، وتأثير غيابه سينتهي باقتلاع خيمة العزاء.
هل حسبت يوماً كم خرَّجت جامعاتنا من مهندسين وأطباء وإداريين… الخ؟
وهل أحصيت كم عدد السياسيين لدينا؟
هل تُدرك حجم الأموال التي تُنفق على التعليم والتدريب والتأهيل في بلادنا؟
وهل تعرف كم عدد المشاريع الصناعية والزراعية التي أقيمت فانقضَّت، وبُنيت فانهارت؟
الإجابة على هذه الأسئلة تُريك الفارق بين الفعل المؤثر وبين الفعل الخُلَّب!
وبين إضافة ملعقة ملح للبحر وبين عدم إضافتها!
وإلى أن نجيب على هذه الأسئلة سيظل البحر يسخر منا ونحن نُلقمه ملاعق الملح، وستظل حيتانه تأتينا شُرَّعاً.. لأننا مُسبتووون!