سعاد سالم soadsalem.aut@gmail.com
تنّوَه ” ما يشبه ترسب التجارب والمعرفة “
لا أعرف كيف حال نجاح بنت خلتي خدوجة، جارة حنّاي عيشة في السوالم ، ولكن أعرف انها كانت تلعب معي وهى الصبيّة ساعتها، بيدُّق بيدُّق ياقلبي دُق ، وهكذا حتى فجأة تزوجت وسكنت في البيت الجديد والذي كنت وصديقتي جميلة ننظر إليه باعجاب ، نوافذه مقفلة دائما، حتى بعد أن سكنته نجاح التي حضرنا عرسها، وغابت هناك ولم نعد نراها، ولم أعد أسمع عنها الكثير ،جدتي وجارتها لايتحدثان أمامي في أمور كهذه، كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، ولكنني كنت مختنقة حينما أمر من هناك وأعرف أن نجاح بالداخل في الظلام ،كنت أخشى الظلام، وتأتي إلى ذاكرتي الآن كلمات مشوشة عن البيت المظلم والرطوبة المحتملة من قلة الشمس، نجاح التي كانت زي السميسة الزارقة.
قبل 2011 ومع مشروع ليبيا الغد والذي بدا وقتها كنافذة فتحت أخيرا بعدما كانت لبلاد مثل بيت نجاح، مقفل ،مظلم، ورطب، يتكدس بالظلام وربما خلف أبوابه تسكن الغولّة، كنت أنظر بريبة لمشاريع الغد الذي كان مجهولا حتى لسيف، و تماما مثل تلك الصغيرة قرب الجابية في السوالم لا أثق في البيت الجديد، وبدأ الشك يتسرب من المشاريع التي تحتل الشواطئ والسور الذي يتوسع في باب العزيزية وقبلها مشتري العقارات في وسط لبلاد، وماقيا التعويضات ،كنت ولازلت من هؤلاء الأشخاص الذين يرونهم الناس متشائمين، فيما كنت كالبعض نملك شيئا من الفراسة،ورثناها تماما كما أنوفنا، وطريقة كلامنا، نرى شيئا لم يتبدَّ بعد.
أول كمباوند محلي
كيف يمكن للناس التميز ، وأن يكون لبعضهم أفضلية على بعض، هذه الطبيعة المزعجة في البشر ستبدو ملفتة أكثر كلما دققت النظر في الأفعال الشائعة والتي لاتقلق أحدا، لأن ما يعتبر تفوقا هو نسبي دائما، فمن يمارس ويشعر بالتميز أو الأفضلية، سيكون ولابد ضمن الفئة الأقل شأنا عند مجموعة بشر آخرين حتى بقوانين التفوق والتميز ذاتها، أعني فكرة ال كمباوند Compound مجمّع سكني، هى فكرة خطرة، وكما لو كانت قنبلة انشطارية ستصيب الجميع في بقعة ما ولو بشكل غير مقصود، فكما نعلم جميعا أن لكل فكرة مهما كانت جيدة،أثر جانبي ما، يقلل من جودتها، فمابالك لو كانت في الأصل فكرة شريرة وإن بدت مجرد تنفيذ رغبة، لتحسين الحياة.
الكامباوند مسمّى لوصف مجمع سكني مغلق،وبات شائعًا ومطلوبا بل ومعروضا للأشخاص الذين يبحثون عن جودة الحياة والخصوصية والأمان في مكان واحد.
في الصحافة، مثل عشته ،بدا الكمباوند الذي يحيط بعمّال الغد أعلى وأكثر أناقة وأجلى طباعة للصحف، وكان يشبه كمبوند باب العزيزية ، كمباوند عجيب ليس سكنا وليس معسكرا وليس كأي شيء، إنه شيء غامض ولا تدخله( السميسة)، ولكن سمعنا كثيرا بأن كل شيء بديع فيه، بديع تماما كما سمعتُ وجميلة عن ذلك البيت الجديد قرب الجابية في السوالم القديمة، لكننا حتى ونحن داخل كمباوند الغد، وكما في كمباوند باب العزيزية، مجرد ضيوف أو عمّال، أو عابرين، ففي كلا الكامباوندين ثمة حاشية هي فقط من تعيش هناك، ومنعزلة عمن يعيشون خارجهما.
الظن الحسن
البشر المميزون، حقا مميزون، أم فقط من وحي خيالهم، أو بضربة حظ، سيعتبرون وخصوصا النوعين الآخيرين أن باقي البشر خارج هذه الجماعة هن وهم مجرد فشلة، وكسالى، وحساد، لذا فالكمباوند الطبقي أمر جيد بالنسبة لهم، وبتلخيص ذكي في مسرحية الواد سيد الشغال لهذه الحالة من الانعزال( ناس عندهم لحمة بيعزموا ناس عندهم لحمة) تفصيلة في منتهى الدقة.
وعلى طريقة هذه العزومة تنتشر وبشكل مشابه تجمعات البشر، كمباوند داخل كمباوند كما الباندورا، لايمكن حسب الفكرة إلا الاستمرار في كشف هذه الطبقات وحتى نصل إلى مايشبه العمى، لأن ثمة طبقات لايمكن ادراكها، لفرط انغلاقها،إذن ما هذا الموضوع المخيف الذي ندخل من بابه الآن؟ إنه ببساطة محاولة فهم اللعبة التي تجعل من لاعبيها بذاتهم ،مجرد أحجار على طاولة قمار، فكل ملهاة في تصوري، إنما يقودنا إليها ضعف إنساني بسيط، اسمه المجاراة، وهو الطريق المباشر نحو تصديق النفس، وتعاليها.
ما العمل إذاً؟ أقترح بجعل ماقاله جبران خليل جبران بين عيونا، قال لي الرب: أحبَّ أعداءك، فأطعتهُ وأحببتُ ذاتي.أما أنا فأضع كلام حناي خرصة في وداني: النفس عدو.
بين الناس
أسكن في منطقة بجنوب روتردام تدعى لومباردين، تقع في حيز أكبر، اسمه آيسل موندا، في هذا الحي الكبير،كل شيء متنوع، من درجات لون البشرة لسكانه إلى إختلافات في احجام البيوت واسماءها وأنواعها وجمالها واتساعها وعالية وواطية ،مبنى سكني أو بيوت أرضية وقصور صغيرة وسواني متفاوتة الحجم وجنانات ضيقة إلى أخرى رحبة ، ومن بيوت تابعة لجمعيات سكنية تخص ذوي الدخل المحدود كالتي أسكن شقة فيها إلى المباني الخاصة ، والأعلى سعرا ، وتتنوع الفضاءات بيننا كما خلفياتنا و اختلافاتنا العديدة بين حديقة عامة وغابات بها أكواخ تسمى تاونن، حيث يمتلكها أشخاص يهوون الزراعة ويمضون فيها أوقاتا ممتعة على مسافة من بيوتهم، وهكذا إلى تنوع الأشجار والطيور ،وبين مسارات السيارات والدراجات إلى تنوع المواصلات قطار وباصات وترام وسيارات خاصة واختلاف الأعمار والجنسيات وكل مايخطر بالبال مما يفرقنا ،يجمعنا كلنا في منطقة واسعة بروتردام الكوزموبوليتية، ولن يوجد في هذه المساحة أي كمباوند، بمعنى مجمع سكني محاط بما يشبه كيس جنين ، معزول ومحمي وغامض، وبالتالي سيبدو لنا ، نحن اصحاب الدخل المحدود أو الفقراء فرصة رؤية هؤلاء الأعلى منّا دخلا، ويمكنهم أن يروننا نسير في الطرقات، أو نركب الباصات معهم، من أمام بيوتهم أو فوق درجاتنا، وبالتالي سنكون لبعضنا غرباء لكننا لسنا متباعدين ، فنحن نعيش معا، إذ نلتقى في الجوار ولابد أن نلتقي، ولأن الحياة لكل منّا رغم خصوصيتها هى واضحة وغير محجوبة بسبب اختلاف نوع السكن أو الملابس أو الدراجات والسيارات ، إلا إن هذه الحياة مفتوحة وتسمح بالتمتع بنفس الخدمات والطرق والأمان، ونتسوق من نفس الأمكنة المجاورة، لدى سألتقى في ذات المول بزاود بلاين، أو في المتاجر المختلفة بشارع سبينوزا أنا التي أرتدي الجينز بسعر 9 أورو بمن يرتده من Guess مثلا أو من Lee،
ماذا يعني أن يعيش الناس في كمباوند؟ مالعيب في ذلك؟ أنا أخبركن/ كم ، أن ذلك يعني الانفصال عن الواقع، أن لايرى الناس إلا وجوها محدودة مألوفة، والانفصال عن الواقع يجعل الناس لاترى ما يكفي من المجتمع لتعرف أين تعيش، وتفهم محيطها وتتقبله وحين تقل المعرفة ،يقل التعاطف ، ويكثر الخوف، ويسهل التضليل بصورة أكبر بكثير مما يحدث في المجتمعات التي تجعل الناس متجاورين بمختلف أحجام بيوتهم أو أرصدتهم البنكية، بن عاشور كان كذلك، وحوش حنّاي العربي في السوالم كان كذلك،وكانت تزورها فيه نسوة البيوت الجميلة والفيلات التي على عكس بيت نجاح، تدخلها الشمس والجارات صاحبات البيوت البايدة، والمفتوحة على السماء.
____منذ وصل أكثر من مليون لاجيء الى اوروبا 2015، وأوروبا تتحول رويدا إلى كمباوند. أمر مخيف.