- عبدالرحمن جماعة
منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أبحث عن بداية أو أصل غناء (العَلم) في ليبيا، وكانت دائماً تحاصرني فكرة أن (العَلم) هو تراث شيعي، أو بالأحرى يقودني البحث إلى تلك الحقبة التي كان الليبييون فيها شيعة إسماعيلية!.
ثم بدأت القرائن تتظافر والأدلة تتآزر حتى كدت أجزم – مع ترك مجالٍ للشك – بأن العلم لا يعدو أن يكون أحد أبرز مخلفات الحقبة الفاطمية!.
أولاً: من حيث تاريخ النشوء.
بكل تأكيد أن العلم لم ينشأ قبل سيطرت الفاطميين على شمال إفريقيا، وذلك لنشاط حركة التدوين في الحقبة العباسية، ولا مجال للقول بأنه نشأ بعدها لأنه لا يوجد مصدر تاريخي يذكرها!.
ثانياً: من حيث تشابه بعض الخصائص بين المذهب الشيعي وغناوة العلم.
إن كلاهما يعتمد على التلميح لا التصريح، وعلى الرمزية بدل الوضوح، وعلى التقية بدل الكشف، وعلى الإضمار بدل الإظهار!.
فالشيعة يعتبرون التقية أصل من أصول الدين، حتى أنهم يقولون: “من تقية له لا دين له“.
أما إذا أضفنا كلمة إسماعيلية، فإن المذهب الإسماعيلي هو مذهب باطني يعتمد على قراءة النصوص قراءة باطنية تخالف كل القواعد اللغوية والمنطقية، وهذا بالضبط ما يفعله الغناي في غناوته، فغناوة العلم تعتمد بشكل كامل على الرمزية وتكثيف النص بشكل عجيب، وابتداء الغناوة من آخرها وليس من أولها، وتذكير المؤنث، واستعمال مصطلحات مغرقة في العمومية مثل: “المرهون” “العزيز” “الياس”… وغيرها!.
ثالثاً: من حيث المفردات المستعملة في غناوة العلم.
فكلمة “مرهون” والتي يُفهم منها المعشوقة التي لم يظفر عاشقها بالزواج منها فكانت من نصيب غيره خطبة أو زواجاً، فيحتمل أن يكون المراد منها في الأصل الإمام الثاني عشر، وهو محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي المنتظر عند الشيعة، والذي ارتهن في السرداب ولا يزال الشيعة ينتظرونه إلى يومنا هذا!.
وأما كلمة “العزيز” فيحتمل أنهم أرادوا بها الحسين بن علي رضي الله عنه، وأما العلم فهو الإمام علي رضي الله عنه، لأنه عَلم من أعلام العِلم والهداية!.
هذا بالإضافة إلى أن أبرز علامة لدى المتشيعين هي الحزن المستمر والبكائيات في شعرهم وغنائهم، وهذا بالضبط ما يميز غناوة العلم فلا تكاد تخلو غناوة من ذكر المواجع والزعل والفراق والسيات والياس والأوهام والدمع والسهر… الخ!.
كما أن طريقة أداء غناوة العلم هي أشبه بالبكاء والعويل والصراخ، إلى درجة أنه يُمكن أن نسمي أغاني العلم بالبكايات، وهذا أقرب وجوه التشابه بين مرثيات الحسين لدى الشيعة وبين غناوة العلم!.
لكن السؤال هنا هو: كيف انتقلت غناوة العلم من الغناء على الأئمة إلى الغناء على المحبوبة؟!
إن المذهب الإسماعيلي هو مذهب باطني، وتعاليمه لا تُعطى للعامة وإنما يحتفظ بها كبراؤهم وعلماؤهم، أما العامة فنصيبهم الشعارات والاحتفالات، وبسقوط الدولة الفاطمية بقي الناس يحتفظون بتلك الشعارات مثل غناء العلم والاحتفال بعاشوراء وتعظيم آل البيت!.
فاستمر الناس يغنون العلم ووجدوا لذلك موضوعاً آخر غير آل البيت وأئمتهم ألا وهو العشق والغرام، وهذا التحول ليس جديداً، فقد تحول الرقص في الهند من طقوس دينية لها معان ورمزية تتعلق بآلهتهم إلى فن يمارسه الهنود لمجرد المتعة، وكذلك تحولت الكثير من القصص الدينية إلى أفلام سينمائية مجردة من تلك المعاني الدينية!.
إلى هنا يُمكن القول بأن هذه المقالة هي خطوة نحو البحث، أو أنها فرضية لا يُمكن الاعتماد عليها، كما أنه لا يُمكن الاستهانة بها!.
وهذا لا يقلل من شأن (غناوة العلم) كإبداع لا نظير له في قدرته على الترميز والإيحاء واتساع الخيال وتكثيف النص إلى درجة سرد قصة كاملة في سطر واحد!.
كما أن سبب أو زمان نشوء فن من الفنون لا يطعن في مصداقيته، ولا يُقلل من شأنه، ولا يُنقص من قيمته، ولا يعني نسبته إلى طائفة الشيعة دينياً أو فكرياً!.
وختاماً.. فإن هذه هي بذرة بحث قد تنشط الباحثين للتحقيق فيها والتحقق منها، وتأكيد صحتها أو بطلانها، لأن المقصد هو ليس إثارة الغبار وإنما نفضه عن جزء معمي من تاريخنا وتراثنا لأجل معرفة أصل وأسباب نشأته وتاريخه ومراحل تطوره!.