فسانيا : تونس: أحمد صالح سعيد.
عقد المركز الدولي للعدالة الانتقالية ورشة تدريبية في فندق نوفوتيل في شارع محمد الخامس مقابل مدينة الثقافة بالعاصمة تونس حول “التاريخ الشفوي.. حفظ الذاكرة و تحويل النزاع” لمجموعة من الصحفيين و النشطاء و الأساتذة الجامعيين و الفنانين و المحامين من عدة مدن ليبية لمدة خمسة أيام على التوالي .
وقد قام بالتنظيم و الإشراف على الورشة التدريبية كل من ريم القنطري خبيرة برامج ليبيا و أفغانستان من تونس, ومحمد رعدان مسؤول برامج و هبة عون مساعدة برامج من ليبيا، إضافة للمدربات: إليسا شما من لبنان- مدربة و ميسرة من خطوات (Steps) و هي شركة مدنية لبنانية تعمل على خلق لحظات استراتيجية تحويلية في عملية تمكين المجتمع والتغيير، و ماريا بشور أبوالنصر مؤرخة باحثة و أستاذة جامعية من الولايات المتحدة الأمريكية و لبنان متحصلة على شهادة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة ماساتشوستس في امهيرست و مهتمة بتاريخ الشرق الأوسط و الولايات المتحدة.
أيضاً جيني مونرو من ألمانيا مديرة مشاريع لمنظمة منتدى السلام المدني (forumZFD) و هي منظمة ألمانية تأسست في عام 1996 من قبل جماعات السلام وحقوق الإنسان كرد فعل على أزمة البلقان.
يقدم أكاديميوها لتحويل الصراع تدريبات مُتخصصة للأشخاص في أعمال السلام الدولية. من خلال الحملات وأعمال الضغط والعلاقات العامة، تدعو بنشاط إلى سياسة السلام المدني.
جوانب الورش
قام المركز الدولي للعدالة الانتقالية بتوفير مترجم فوري محترف و هو غازي دالي أستاذ جامعي تونسي في الترجمة القانونية و الذي عمل كمترجم فوري منذ عام 1991.
و تناولت ورشة التاريخ الشفوي عدة جوانب ابتداء من أسئلة تمهيدية تضع المتدربين في حالة من فهم التاريخ و أهميته انطلاقا من مقولة جورج ” الطريقة المثلى لتدمير الشعوب هي عبر منعها من فهمها الخاص لتاريخها و إلغائه بالكامل” إضافة إلى مناقشة أسئلة من قبيل ما هو دور التاريخ في تشكيل الهوية؟ ما هو التاريخ المشترك؟ ما دوره في بناء المجتمعات و الأوطان؟ هل يمكن أن تنشأ الأوطان بدون تاريخ؟ ما هو دوره في حياتنا و كيف يساهم في تشكيل حاضرنا؟ ما الفرق بين الماضي و التاريخ؟ ما هي الذاكرة و كيف ترتبط بالتاريخ؟ و كيف يتم تفسير الماضي بناء على التفكير الزمني و مقارنة المصادر التاريخية عبر الزمان و المكان, و كيفية صياغة سؤال بحثي و بعدها وضع السردية التاريخية؟ّ!
و من ثم تناولت الورشة معنى التاريخ الشفوي و الذي تم تعريفه على أنه “مجال دراسة و طريقة لجمع أصوات و ذكريات الناس و المجتمعات و المشاركين و المشاركات في الأحداث الماضية و حفظها و تفسيرها” و لذلك يهتم المؤرخات و المؤرخون الشفويون بتسجيل الأصوات و الذكريات التي تستعيد فترة محددة أو حدثا معينا استنادا إلى قصص شهود العيان و تجاربهم الشخصية (و ليس ما سمعوه من الآخرين).
يقول الكاتب و المؤرخ من دولة مالي أمادو همباتي با “عندما يموت رجل مسن, تحترق مكتبة بكاملها”.
التاريخ الشفوي هو عملية قائمة على البحث و الاستقصاء و المناقشات و التفكير النقدي و المقارنة و الاستدلال السياقي و التقييم و جمع المصادر و إجراء المقابلات.
كما تم التطرق إلى الفرق بين التاريخ الشفوي و الصحافة حيث أن كلاهما يتضمن إجراء مقابلة و تسجيل قصص شهود العيان و كثيرا ما تعرف الصحافة على أنها مسودة التاريخ الأولى. هناك اختلافات جوهرية بينهما فالصحافيون لا يسجلون مقابلاتهم دائما بينما المؤرخون الشفويون يتوجب عليهم ذلك. إضافة إلى أن الصحافيين لا يكشفون عن مصادرهم بينما في مجال التاريخ الشفوي يتم ذكرها إلا إذا كان الموضوع حساساً و يستدعي عدم كشف الاسم حماية للشخص المعني, و أخيراً لا يحتفظ الصحافيون بالضرورة بتسجيلاتهم بعد الانتهاء من كتابة المقال بينما يحافظ المؤرخون على المقابلات المسجلة لكي تصبح فيما بعد أرشيفا للذاكرة.
و تمت مناقشة سؤال لماذا يعتبر التاريخ الشفوي مُهماً؟ و ذُكر الدور الذي لعِبه عالم الاجتماع البريطاني في تأسيس التاريخ الشفوي و من أقواله “التاريخ الشفوي هو تاريخ مبني على الناس يبعث الحياة في التاريخ بحد ذاته و يوسع نطاقه. و يصنع أبطالاً ليس فقط من القادة بل من الغالبية غير المعروفة من الناس” و أخيرا ما الذي يجعل التاريخ الشفوي مختلفاً؟ و هو أنه يتسم بالموضوعية, التفكير النقدي, و أنه يركز على الجوانب المخفية من الحياة اليومية التي لم يسلط عليها الضوء. فعلى سبيل المثال يهتم بتاريخ الأقليات و حياة الأشخاص الذين ليسوا في مناصب سياسية أو عسكرية أو مالية.
إضافة إلى اختيار الرواة و السلطة المشتركة بين الرواة و المحاورين و كيفية طرح الأسئلة في المقابلات, أنواع الأسئلة: أسئلة تمهيدية,أسئلة محددة,أسئلة مفتوحة, أسئلة المتابعة.
كانت الورشة مليئة بالتدريبات العملية و التطبيقية, تمكن المشاركون من خلالها من التعرف على مشاريع متعلقة بالتاريخ الشفوي في لبنان و فلسطين و غيرها من الدول التي عاشت نزاعات و حروبا أهلية.و الاطلاع على بعض الأمثلة من الأرشيف و المشاريع و من أبرزها مشروع معبر بودكاست يحتوي على 12 حلقة و التي أنجزها كل من أنطوني و سيدرك حول الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) على منصة اليوتيوب و موقع ويب صغير حيث أجروا 55 مقابلة شفوية مع مختلف الفئات الاجتماعية و الطوائف و الأجيال من كل المناطق للحديث عن ذكرياتهم و ماضيهم وكان الهدف من المشروع كسر الصورة النمطية عن الآخر المختلف و حفظ الذاكرة الجماعية بدون أجندة سياسية و تم التركيز على الصوت فقط من أجل تحريك الخيال و تقريب المسافات.
السجون السياسية.
كما تمت مشاركة مشروع أصوات الذاكرة و الذي يقوده نساء تونسيات كُن ضحايا و هو مشروع لحفظ ذاكرة النساء في السجون السياسية و الحديث عما مررن به من معاناة وقمع في تونس و المساهمة في الجهود المبذولة في سبيل مكافحة الإفلات من العقاب و الفساد في المؤسسات.
و من أبرز ما تم إنتاجه من خلال مشروع “أصوات الذاكرة” الذي يتبناه المركز الدولي للعدالة الانتقالية مكتب تونس و جامعة بيرمنجاهم البريطانية هو كتاب “دفاتر الملح” و فكرته بسيطة و هي أن تقوم النساء بكتابة قصصهن القصيرة بأنفسهن عن تجربة السجن السياسي و نضالهن من أجل الحفاظ على كرامتهن و حقوقهن و صون الذاكرة.
وتم توزيع نسخ للكتاب مجانا على المشاركين إضافة لبعض الكتيبات, نبذة عن التاريخ الشفوي و رواية مصورة “على هزان القفة”.
كما تم عرض فيلم وثائقي لأحد المشاركين و هو المخرج محمد مصلي من مصراتة بعنوان “حداد تاورغاء” و الذي يحكي قصة عودة فيصل الطوير لمدينته في إطار المصالحة الوطنية بعد معاناة النزوح و الحروب الأهلية و تمت مناقشة فكرة أن الأفلام الوثائقية يمكنها أن تلعب دورا في حفظ الذاكرة وتحويل النزاع.
قالت ريم القنطري مديرة برامج مكتب ليبيا «المركز الدولي للعدالة الانتقالية منظمة دولية مقرُها في نيويورك تم تأسيسها منذ أكثر من 20 سنة الماضية من طرف حقوقيين لديهم خبرة في مجال العدالة الانتقالية يعملون في هيئة الحقيقة و المصالحة, المركز الدولي يعمل في قرابة 50 دولة في العالم. دول تمرُ بمسارات العدالة الانتقالية و دول يتم التحضير فيها لهذه المسارات أو دول لا تزال في حالة النزاع أو الصراع و التي تتم فيها بعض الأنشطة تحضيرا لمسارات العدالة الانتقالية.
الورشة هي عن التاريخ الشفوي و حفظ الذاكرة و تحويل الصراعات, أردنا من خلالها تدريب فريق من الناشطين الليبيين في مجال حقوق الإنسان, حقوق الأقليات, العدالة الانتقالية لكي يكون لهم دور في توثيق بعض شهادات الليبيين الذين يمكن أن يكونوا مواطنين عاديين أو ضحايا و أشخاص تم الإضرار بهم قبل و بعد ثورة 2011 و مساهمة هذا العمل في أي مسار رسمي للعدالة الانتقالية أو غير رسمي في ليبيا».
لسد الفجوة
و أضافت ماريا أبوالنصر المؤرخة و المتخصصة في تاريخ الشرق الأوسط: «أعتقد أن التاريخ الشفوي هو وسيلة لسد الفجوة بين التاريخ و الجمهور, أو بين الماضي و الحاضر. أنا مقيمة في بيروت لبنان لكن كما تعلمون مهتمة بكيف يمكن للتاريخ الشفوي أن يمتد على نطاق أوسع في المنطقة إلى ما وراء لبنان من المشرق للمغرب.
ما يجعلنا مهتمين بالقيام بهذه الورشة التدريبية هو أننا نود توسيع نطاق التاريخ الشفوي في المنطقة و مشاركة منهجيتنا النظرية للتاريخ الشفوي,
و كيف أنه مختلف عن الأنواع الأخرى من الأبحاث.
و كيف يمكننا تطبيقه في سياقات و مواقف و التي لا تزال لديها علاقة صعبة مع الماضي, كيف يمكن للتاريخ الشفوي أن يساعد على مد جسر بين الأجيال, كيف يمكن أن يفسر التجارب اليومية التي لا نسمع عنها سواء في الأخبار و الأحداث الصعبة و التي لم نسمع كيف عاش الناس تجاربها, بتعاوننا نحن و أنتم بواسطة هذه القصص يمكن تغيير تصور و رؤية الناس و تحدي الخرافات و الصور النمطية و جمع الناس معا”.
وأضافت:” من خلال هذه القصص نود الجمع بين النظري و المنهجية و الممارسة و التطبيق و العمل مع المشاركين من ليبيا حول كيف يمكنهم تطبيق هذه الممارسات على سياقهم و أسماع أصوات مختلفة من ليبيا داخليا و خارجيا. أعتقد بأن التاريخ الشفوي وسيلة مواتية للغاية لمعالجة أو تطبيق العدالة الانتقالية لأن العدالة الانتقالية هو إجراء طويل يأخذ الكثير من الوقت في البناء خطوة بخطوة, و التاريخ الشفوي يعكس هذه العملية, فالإجراء مهم كما هو المنتج مهم لذا فنحن نتعلم معا و قد لا نعرف ما هو المنتج و لكن عملنا معا خطوة بخطوة سيجعل من التاريخ الشفوي مكملا لتحقيق العدالة الانتقالية».
و ذكرت أليسا شما مضيفة: نحن في ورشة للتاريخ الشفوي خاصة بسياقات التواريخ المتنازع عليها نعمل على أول نقطة و هي كسر نمطية النظرة للتاريخ كملكية للأشخاص الحاكمين دون الرجوع للناس و الأخذ بالاعتبار وجهات النظر المتعددة. فنحن في التاريخ الشفوي نركز على الحكايات و القصص و تجارب الناس في حد ذاتها, كيف عاشوا تلك التجارب و ماذا تعني بالنسبة لهم.
في هذه الورشة عملنا مع ناشطين و ناشطات من ليبيا تحت مظلة العمل على العدالة الانتقالية و كيف يمكن للتاريخ الشفوي كمفهوم و كأداة و كمنهجية أن يخدم مسارات العدالة الانتقالية و بالتالي بناء مستقبل أفضل بايصال صوت وجهات النظر المختلفة و تقارب هذه الوجهات في نهاية المطاف ليعبر الناس عن أحوالهم و أوجاعهم لسد ثغرات في التاريخ لم نكن نعرف عنها شيئا و كيف عاش الجميع الفترات السابقة لكي نتقبل و نتفهم بعضنا البعض لكي نتجه معا نحو واقع أفضل و لأن النزاع يخلق ظروفا جدا قاسية للمجتمعات فإن تحويله من الألم و المعاناة إلى واقع أفضل يأخذ الوقت, و هذا الوقت نقوم فيه بالتوثيق للتاريخ و بالتالي فهي فرصة لتحويل النزاع من أمر مؤلم و خسائر إلخ… إلى أمر يمكن الاستفادة منه لبناء وطن أفضل فإذا هذه مساحة لهؤلاء الناشطات و الناشطين لكي يدخلوا التاريخ الشفوي إلى عملهم أو يكون مكملا له لعل و عسى يوما ما أن نجد نتائج هذا العمل على أرضع الواقع».
العدالة الانتقالية.
أشارت مساعدة مديرة برامج هبة عون أن هذا التدريب هو الأول من نوعه في التاريخ الشفوي يستهدف ليس فحسب النشطاء و الصحفيين بل و أيضا المحامين و الإداريين في منظمات محلية في ليبيا لكي يساهموا من خلال التاريخ الشفوي في وضع ليبيا في مسار العدالة الانتقالية.
علق الناشط الحقوقي من ترهونة عبدالكريم جاب الله: «أن التاريخ الشفوي يمكننا الاستعانة به لحفظ الذاكرة و تسليط الضوء على المقابر الجماعية و معاناة أسر و أهالي المفقودين و مساعدتهم و حفظ شهاداتهم و إيصال أصواتهم».
أكد الناشط الحقوقي طارق لملوم أن التاريخ الشفوي في ليبيا يُمكن أن يلعب دورا مهما في توثيق الانتهاكات الحقوقية صوتا و صورة سواء التي تطال المواطنين أو الأجانب من المهاجرين و طالبي اللجوء.
أضاف المستشار القانوني برابطة شهداء سجن بوسليم وأخ لأحد الشهداء «مصطفى المجدوب قائلا إن فريق المدربين كان فريقا متكاملا بإمكانيات عالية و نجح في تبسيط إجراءات التاريخ الشفوي الذي لم يتم التطرق إليه في ليبيا سابقا و نحن كإحدى مؤسسات المجتمع المدني و كرابطة شهداء مذبحة سجن بوسليم سنقوم خلال الأيام القادمة كنتيجة لهذا التدريب, بتدريب الزملاء في الرابطة والنشطاء و تقديم يد العون لكل من لديه رغبة في توثيق التاريخ الشفوي لمذبحة سجن بوسليم لتكون هذه الحادثة جزءا من الذاكرة, ذاكرة المجتمع الليبي و حفظها للأجيال القادمة و لذلك لا يسعني إلا أن أشكر المركز الدولي للعدالة الانتقالية على تنظيم هذه الورشة».
و الجدير بالذكر أن المركز الدولي ساهم في سن قانون العدالة الانتقالية في ليبيا الصادر في عام 2013 رقم 29, كما قدم جلسات تدريبية لليبيين محامين و نشطاء في توثيق الانتهاكات المستمرة كما يعمل على تسليط الضوء على أسباب النزاع و إشراك النساء و الشباب في مسار العدالة الانتقالية.
وفي نهاية الورشة تم توزيع شهادات استكمال التدريب, و عبّر المشاركون عن شكرهم و امتنانهم للمركز الدولي للعدالة الانتقالية و رغبتهم في العمل على مشاريع مرتبطة بالتاريخ الشفوي, حفظ الذاكرة و تحويل النزاعات في ليبيا.