أبوبكر سالم السنوسي
تعد مشكلة شغل وقت الفراغ من المشكلات التي يواجهها الشباب , و من البديهي القول إن وقت الفراغ له أبعاد سلبية متعددة , فنجد الآثار النفسية مثل الاكتئاب و القلق , و الخوف من المستقبل , إلخ من الاضطرابات التي تمثل هاجساً للشباب في مقتبل أعمارهم , فضلاً عن الآثار الاجتماعية مثل الخلافات الأسرية بسبب بقاء الشاب فترة طويلة داخل المنزل دون عمل ناهيك عن سوء تكيفه مع أفراد أسرته و مجتمعه , و لا نبالغ إن قلنا إن وقت الفراغ يعد هدراً في الجوانب الاقتصادية , و استثماراً خاسراً ، فالدول المتقدمة تسعى بكل ما تملك من إمكانيات إلى شغل وقت فراغ الشباب بإيجاد فرص العمل في العطلة المدرسية , و إعداد البرامج الفنية و التقنية و الأنشطة المختلفة , و الإعلان عنها في وسائل الإعلام ثم تقديم المكافآت المادية , تشجيعاً لهم . إن عدم شغل وقت الفراغ هو بمثابة تحجيم فعلي لطاقة الشباب و إمكانياته الكامنة و استعداداته المختلفة , فمرحلة الشباب هي ذروة في العطاء و الإنتاج , و استغلالها أمر تحتمه الضرورة القصوى , حتى لا يصبح الفراغ معول هدم في بناء الإنسان و تنميته . ومن الضروري أن تستخدم ساعات الفراغ استخداماً إيجابياً يسمح بنمو الإمكانيات الشخصية و قدراتها من جهة وبتطوير النظام الاجتماعي العام من جهة أخرى , و حقيقة أنه يجب الاستمتاع بوقت الفراغ , و لكنه أيضاً وقت ملائم تماماً لإثراء الخبرة الشخصية , و الإعداد لحياة أكثر إشباعاً و لتحقيق أقصى استثمار ممكن لوقت الفراغ يتعين الإحساس بالقيم , و إلا كان البديل هو أن يشغل الإنسان نفسه بنشاطات عديمة المعنى , و خالية من القيمة . فكل نشاط نمارسه يتعين أن ندرك القيم التي ينطوي عليها , و أن نتمثلها في سلوكنا , و أسلوب تفكيرنا و تعاملنا مع الآخرين , و هذا بدوره , يجعلنا ننخرط في عمل بالغ الأهمية بالنسبة لحياتنا الاجتماعية ككل ألا و هو إعادة النظر في القيم التي تستند إليها حياتنا المعاصرة و مراجعتها , و تصنيف أهداف الحياة و غاياتها , في هذه البيئة المتغيرة التي تبرز في هذا الصدد التساؤلات الحاسمة بصدد سياسات استثمار وقت الفراغ , كيف يستطيع الناس اختيار تلك الأنشطة الأكثر أهمية ؟ وكيف يستطيعون أيضاً تحقيق فهم أكثر ملاءمة للنمط الثقافي العام في المجتمع الذي تعد أنشطة وقت الفراغ جزءا منه؟ بإيجاز كيف يمكن تهيئة الناس وإعدادهم لاستخدام وقت الفراغ استخداماً صحيحاً و مفيداً , بحيث يكون استثماراً حقيقياً , يحقق عائداً إيجابياً على المستويين الشخصي و المجتمعي ؟ أولى خطوات الإجابة على التساؤلات السابقة تتمثل في إعادة تحليل العلاقة بين العمل و الفراغ , فالعمل الحديث يتسم بالكد و العناء . و الملل , و الرتابة , فضلاً عن سمة الإحباط التي ارتبطت بالعمل الصناعي و الحكومي بصفة خاصة . حينئذ سيتضح لنا أن من أهم ضرورات الحياة المعاصرة أن نجعل العمل أكثر إشباعاً , و لهذا تبذل منظمات العمل الحديثة جهدها لكي تدخل عدداً من الأنشطة الترويجية ضمن برامجها بحيث تتيح فرصة الترويج و قضاء وقت الفراغ عاملين بها من خلال هذه الأنشطة , على افتراض أن ذلك يجعل العمل شيئاً محبباً و مقبولاً . ونقول إن ذهاب الموظف إلى عمله لا يعني بالضرورة أنه ليس لديه وقت فراغ , فقد كشف عدد من الدراسات أن إنتاجية بعض الموظفين لا يتجاوز ربع وقت العمل الفعلي , مما يترتب عليه وقت فراغ , فالأنشطة الترويجية , و البرامج المتنوعة تقضي على ما يسمى وقت الفراغ , فالعمل وحده لا يعد مؤشراً على شغل الموظف يوم العمل دون فراغ . والفراغ الحقيقي يعين الاختيار الحر لنوع النشاط أو السلوك الذي يمارسه الفرد خلال الوقت الحر المتاح له , و هذا يقتضي تنوعاً في مجال الأنشطة المتاحة فبعض الناس يفضل قضاء وقت فراغه في الرياضة البدنية , و البعض الآخر يفضل الاستماع إلى الموسيقا أو ممارسة هواية خاصة , و ترتبط ممارسة هذه الأنشطة بمتغيرات أخرى مثل : العمر , و النوع , و المستوى التعليمي , و الوضع الاجتماعي . لذلك برزت فكرة الإعداد لقضاء وقت الفراغ بطريقة إيجابية , و تقوم هذه الفكرة على طريقتين أساسيتين , الأولى هي تثقيف الناس ليعرفوا كيف يستخدمون وقت فراغهم بحكمة , و الثانية هي تطوير برامج الترويج المتنوعة التي تقابل احتياجات سلوك الفراغ . و تعتبر المدارس و المعاهد التعليمية من الأجهزة الأساسية التي تتولى الإعداد لقضاء وقت الفراغ . فمن المسلّم به أن المدارس أصبحت تقوم على الروح الديمقراطية , و الوظيفة الرئيسية للمدرسة هي الإعداد للحياة من خلال الاهتمام بتنمية مشاركة التلاميذ في حياة الجماعة و المجتمع المحلي , و القدرة على مواجهة مشكلات الحياة . و لا تقتصر أهداف المدارس الحديثة على تلقين التلاميذ مبادئ العلوم , و إنما يمتد نشاطها من أجل خدمة المجتمع المحلي أو البيئة المحيطة بها , وعموماً تتلخص القيم التربوية التي يقوم عليها النظام التعليمي الحديث في ثلاث نقاط: الأولى اكتساب المعارف الأساسية , و الثانية , تنمية الشخصية , و الثالثة الإعداد لمواجهة المواقف , و بخاصة مواقف العمل أو المهنة , و الفراغ , و العلاقات الاجتماعية . و الواقع أن الإعداد للاستمتاع بوقت الفراغ و استخدامه استخداماً مفيداً شيء يتطلب تفكيراً و جهداً كبيراً , و يكاد يكون التدريب في هذا المجال أكثر صعوبة من التدريب في المجال المهني و الصناعي مثلاً . فالتعليم على كيفية قضاء وقت الفراغ يتعين أن يأخذ في اعتباره عدداً كبيراً من المتغيرات , إنه يجب أن يتم في ضوء دراسة ميول الأفراد و اهتماماتهم , و مهاراتهم , ذلك أن التعليم من أجل قضاء وقت الفراغ يتضمن إثراء الشخصية وخلق الاهتمامات , وتدعيم نظرة فلسفية للحياة , فضلاً عن تنمية المهارات , فالمرء حينما يواجه وقت الفراغ يجد نفسه مدفوعاً بحوافز داخلية , و أخرى خارجية للسلوك , فهل هو يختار ذلك النمط من النشاط , الذي يحقق إشباعاً صحياً , أم أنه يختار ذلك النمط من النشاط الذي يحقق إشباعاً صحياً؟ أم أنه يختار آخر يجلب له الشعور بالندم و الانفصال عن حياة الجماعة ؟
و هكذا يكون التدريب على قضاء وقت الفراغ أمراً بالغ الصعوبة و التعقيد أكثر من مجرد تعليم الناس أنشطة جديدة , إذ يتعين أن يتخلص الناس من القهر و الروتين الذي يفرضه عليهم عصر الآلة , و كذلك المقاييس الخاطئة للسلوك , حتى يحققوا قدراً من التحرر في الاستمتاع بتلك الأشياء ذات الطابع الترويجي و التربوي . والقضاء على وقت الفراغ يتطلب مجالاً واسعاً من الأنشطة والاهتمامات التي يمكن أن يكتب لها الاستمرار و النمو خلال مراحل الحياة المختلفة..