يومٌ مُبارك، هو مُلتقى المسلمين المشهود، يوم رجاءٍ وخشوع، وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريمٌ على المسلمين، قال شيخ الإسلام – رحمه الله -: “الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير به”. والدعاء عظيم المكانة رفيع الشأن، يرفع الحاج إلى مولاه حوائجه، ويسأله من كرمه المتوالي، والإلحاح على الرب الكريم في الطلب وعدم اليأس من تأخر العطاء يقينٌ في إجابة الدعاء، وأفضل الدعاء دعاء ذلك اليوم، قال ابن عبد البر – رحمه الله -: “دعاءُ يوم عرفة مُجابٌ كله في الأغلب”. والإكثار فيه من كلمة التقوى مع العلم بمعناها والعمل بمقتضاها خير الكلام، قال – عليه الصلاة والسلام -: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير». يومٌ يكثُر فيه عُتقاء الرحمن، ويُباهي بهم ملائكته المُقرَّبين، قال – عليه الصلاة والسلام -: «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم. قال ابن عبد البر – رحمه الله -: “وهذا يدل على أنهم مغفورٌ لهم؛ لأنه لا يُباهي بأهل الخطايا والذنوب إلا من بعد التوبة والغفران”. واجتماع الناس في عرفة تذكيرٌ بيوم الحشر لفضل القضاء بين الخلائق، ليصيروا إلى منازلهم إما نعيمٌ، وإما جحيم. والنُّسُك من هديٍ أو أُضحيةٍ عبادةٌ محضةٌ لله ليتقرَّب بها المسلمون لربهم،قال الله تعالى:- (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )[الحج: 37]. وفي وضع النواصي بين يدي ربها حلقًا أو تقصيرًا استسلامٌ لهيمنة الله، وخضوعٌ لعظمته، وتذلُّل لعزته. والذكر حياة القلوب، والإكثار منه في المشاعر مقصدٌ من مقاصد أداء تلك الشعيرة، وأرجى لقبولها، وأصدق في إخلاص فعلها، قال – عز وجل – ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 28]، وقال – جل وعلا -: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ )[البقرة: 198]، وقال – سبحانه – ( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) [البقرة: 200]، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]، فشعائر الحج شُرِعت لذكر الله، قال – عليه الصلاة والسلام -: «إنما جُعِل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»؛ رواه الترمذي. وأقرب الحجيج عند الله منزلةً أكثرهم لها ذكرًا، قال ابن القيم – رحمه الله -: “أفضل أهل كل عملٍ أكثرهم فيه ذكرًا؛ فأفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكرًا لله في صومهم، وأفضل المُتصدِّقين أكثرهم ذكرًا لله، وأفضل الحُجَّاج أكثرهم ذكرًا”. وإذا انقضى الحج فأكثِر من الاستغفار فهو ختام الأعمال، والاستغفار يُخرِج العبدَ من العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، ومن أحسن في حجه وابتعد عن نواقصه عاد منه بأحسن حالٍ وانقلبَ إلى أطيب مآل. ومن أمارة الرضا والقبول: فعل الحسنةٍ بعد الحسنة، وإذا انقلَب الحاج إلى دياره فليكن قدوةً فيها بالصلاح والاستقامة والدعوة إلى الله على بصيرة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) [الحج: 27، 28]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.