- محمد عبدالرزاق
التعصب ؛ هو مضاعفة جهدك بعد أن تكون قد نسيت مبتغاك .
الزمان ؛ سنة 1986 ، بعد أيام من عملية وادي الذهب ( ألدورادو ) الأمريكية التي قصفت أكبر مدينتين ليبيتين بمنتصف شهر أبريل من نفس العام ، على خلفية اتهام اللانظام بتنفيذ هجمات ببرلين الغربية والتي أودت بحياة أمريكيين اثنين وذلك باليوم الخامس من الشهر؛ تلك العملية التي استهدفت بشكل خاص رأس اللانظام المتعنت وذي النزعة الشوفينية المتطرفة ، وأسفرت بدلا من ذلك عن مقتل ستون مواطنا بين مدني وعسكري ، وتدمير عدد من البيوت والطائرات ، وسقوط طائرة أمريكية واحدة من طراز ( أف 111 أردبارك ) وتحولت على إثرها الدولة إلى عظمى كونها هوجمت من قبل دول كبرى .
المكان ؛ قاعدة جوية بجنوب وسط ليبيا ، بنيت جميع مرافقها على طراز أوروبا الشرقية ، مجمع اداري ، عنابر ، ملاعب ، صالات رياضية ، عقل أكروبات بالهواء الطلق ، حمام سباحة مغطى ، مسرح وسينما مكشوف ، دشم خرسانية بأبواب كهربائية لإيواء الطائرات ، ورش صيانة مزودة بأحدث المعدات ، مخازن ضخمة لقطع الغيار والآليات ، مصنع أكسجين ، غرف عمليات ، مدرسة فنية بكامل نماذجها التوضيحية ، مهبط بامتداد بضع كيلو مترات مهيأ لهبوط وإقلاع أضخم الطائرات ، وكل الدلائل تشير الى أن هذا المكان مترامي الأطراف سيكون من أكبر القواعد بالشمال الأفريقي وستشغله قوة كبيرة لا تمتلكها البلد ، ويشاع أنها قوات حلف وارسو ، إلا أن رأس السلطة الذي يبدو قد سبق ووعد غير كعادته رأيه بحجة أن بلده تحتفل بمناسبتين للإجلاء!! ومن ثم لا يمكن الموافقة على استيطان من نوع آخر ، وحوله إلى قاعدة أم لمواصلة الهجمات على الجارة الجنوبية عبر مهابط حدودية ، وقرر بعد الغارة نقل القيادة العسكرية لإحدى المدن الثلاث الواقعة بنطاق القاعدة ، التي اختارتها شعبة الآليات بالسلاح الجوي مقرا لها لوجود المخازن اللازمة لاحتواء آلياتها وقطع غيارها ، وقد دمرت أجزاء كثيرة من هذا الموقع بعد ثورة فبراير من قبل قوات الناتو كونه يشكل موقعا حيويا يهدد جنوب أوروبا ووسط أفريقيا فيما لو احتلته قوة معادية ، وتحولت المليارات التي صرفت على الحرب بدلا من السلام ؛ لهباء تذروه الرياح .
كان صاحبنا برتبة ن . عريف ، ومتخصصا بالآليات الأرضية التي تحتاجها الطائرات المقاتلة للفحص والتشغيل الأرضي باطار عمليات الحرب على الدولة الجنوبية الجارة ، والحالة الأمنية طوارئ قصوى قد توصلك بأي خطأ لتهمة الخيانة ولتكون عبرة لمن يعتبر ، فما بالك لو كانت التهمة التمرد على تعليمات الآمر المباشر ، وبأحد صباحات الله سبحانه كان صاحبنا مكبا على اصلاح سيارة من نوع زل روسية الصنع متهالكة من ذوات تخصص الهواء المضغوط اللازم لتجهيز الطائرات ، وفجأة توقفت بجانبه سيارة يابانية خضراء اللون ( مازدا 626 ) بقيادة آمر السرب ، برتبة رائد والتي كانت من الرتب المرموقة بذلك الزمن ، وهو شوفيني قصير القامة والنظر ، ونسخة مصغرة من رأس السلطة كونه جزء من منظومة شبه متكاملة تنفذ الأوامر كآلة لا تجرؤ على مناقشتها أو حتى أن تبدي النصيحة التي يمكنها أن تغير مصير بلد لو كانت مخلصة ووقعت بمحلها ؛ وفوق ذلك يرى أنه يقود ثلة من البدو الرعاع الجهلة :
ــ خيرها السيارة؟!!
ــ خاربة ، وتبي طروف يا فندي .
_ يا ودي الطيايير واقفة ع الهواء ، ولازم يطيروا توا .
ــ الله غالب ، ماعندي ما ندير .
ــ تي باهي ، أركب بحداي نرفعك لمكان فيه سيارات هلبة .
ركب بجانبه وأنطلق مسرعا ، وبعد مسافة حوالي ثلاثة كيلو مترات انعطف جهة قسم النقلية التي كانت خالية الا من حداد كهرباء روسي ، أوقف السيارة وطلب منه النزول ، صحبه بأتجاه ( هنقر ) ضخم ، وحين دخلا المكان شاهدا على امتداد البصر أشواط من السيارات الروسية الصنع والجديدة من ذوات التخصصات المختلفة ، وأشار لأحد الأشواط قائلا انها نفس النوع ، وأمره بفك ما يحتاجه منها لتركيبها بالأخرى المعطلة ، فكر صاحبنا ؛ قد جاءت الفرصة لتلقين هذا الإمعة درسا في أن الأشخاص لا يقاسون بالرتب والمراكز والصلاحيات ، وأنه على الرجال أن لا يكونوا مجرد آلات تنفذ الأوامر بلا تمحيص ، وكانت النتيجة أن رفض صاحبنا القيام بهذا الخراب المزدوج ، وسرقة قطع غيار تابعة لإدارة لها اجراءاتها وصلاحياتها بالصرف والتسليم والإستلام ، أعاد الآمر مندهشا تعليماته مهددا بالمحاكمة ، التفت هذا الأخير فرأى خلفه على بعد مترين قطعة ماسورة معدنية ، فألتقطها وعاد إليه ، ركض الآمر وقفز بسيارته وشغلها على عجلة وولى مسرعا بينما يحدث نفسه غاضبا ، بدوي جلف ، وربما أيضا قد جن نتيجة الضغوط ، خرج من قسم النقلية وسار تحت أشعة الشمس الحارقة بمحاذاة الطريق على أمل أن تمر به سيارة ما تقله لمكان العمل ، بينما يفكر بحل للسيارة اللعينة المعطلة ، والتي قام فيما بعد بتركيب مجموعة أسطواناتها على مقطورة زراعية لتجر بواسطة جرار زراعي خاص بجر الطائرات ، بمساعدة الحداد الروسي المذكور آنفا ، فحلت المشكلة وتخلصوا من احدى تلك السيارات المهولة ، وفيما هو مستغرق بأفكاره توقفت بجواره سيارة من ذوات الدفع الرباعي تقل ثلاثة من أفراد الشرطة الجوية للقاعدة مدججين بأسلحتهم وسأله أقدمهم عن اسمه ورتبته ، وحين عرف أنه المقصود أمره بالركوب معهم بالصندوق الخلفي بعد أن أبلغه أن آمر القاعدة يطلبه ، وانطلقوا صوب الإدارة الرئيسية ، أدخلوه كما يدخلون المتهمين للمحاكمة ، وجد آمره المباشر يجلس أمام مكتب الآمر الأعلى وهو يغلي من الغضب ويحرك رأسه للأمام بحركة عصبية معروفة عنه حين يتوتر ، سأله الآمر بنبرة غاضبة :
ــ كنك يا فندي ترفض ف الأوامر ، وتهدد في آمرك بالضرب ، أمالا تحسابها هيدقة ؛ أنت مش عارف أننا في حالة طوارئ وقد تنالك عقوبات مشددة؟!!
ــ عارف يا فندي ، بس هضا يبيني نخرب سيارة جديدة مخزنة وتابعة لشعبة الآليات لا القاعدة ، واتلاف الممتلكات العامة جريمة ، ومانبيش بعد نتعرض للمحاكمة حد يقولي : القانون لا يحمي المغفلين .
ــ تفضل ، أخرج .
استدار صاحبنا ، وكلمات الآمر الأعلى الغاضبة والموبخة للأدنى منه تشنف أذنيه كموسيقى أغاني فيروز ، وخرج وزاويتي شفتيه تصافحان أذنيه غبطة وحبورا لإنتصاره الصغير على الشوفينية البغيضة ؛ مرددا بقرارة نفسه : ليس هناك متعة في القتال ، ولكن المتعة تكمن في الفوز .














