أنور الطرابلسي العاشق الفنان

أنور الطرابلسي العاشق الفنان

بقلم :: ميلاد منصور الحصادي
أن تتحدث عن المرحوم أنور الطرابلسي …بعني أن تتحدث عن ستين عاماً من العطاء المسرحي فقد رحل عنا هذا الفنان الكبير يوم 11/6/1989 وقد شارك فى أول عمل مسرحى ليبي قدم فى درنة عام 1930
أن تتحدث عن هذا الراحل فأنت تتحدث عن المسرح الليبي بكل إنجازاته وخيباته بكل أفراحه وأتراحه .
أن تتحدث عن (سى أنور ) كما كنا نناديه فهذا يعني أنك تتحدث عن الحب وعن الوجد وعن العشق .
ستون عاماً هي الرحلة التي بدأها (سى أنور) من على جسر وادي درنة في شارع البحر حين قابله المرحوم (أحمد النويصرى ) ليدعوه للانضمام إلى كوكبة من مثقفي درنة وشبابها ليبدؤوا رحلة جديدة ويقتحموا عالماً جديداً كله أسرار ومفاجآت كان من بينهم ( إبراهيم الأسطى عمر /محمد سرقيوة / يونس بوسويق/أحمد النويصري/خليفة الحاج عيسى /عمر الطرابلسي ) وغيرهم وليخوضوا تجربة جاء بها الراحل ( محمد عبد الهادي ) من بلاد الشام ومصر…فكانت بداية المسرح الليبي وأولى الخطوات على الدرب الطويل ..وكانت تجربة مملوءة بالمخاطر والعقبات في وطن محتل ومجتمع تسيطر عليه الأمية والفقر ، ومع ذلك قرروا أن يخوضوا التجربة بكل صدق وحماس ، وعن كل رفاقه اختلف ( أنور الطرابلسي ) فما أن انغمس في التجربة وأحس بروعة ما يقدم وما يقوم به ، قرر رغم وعورة الطريق ، أن يقتحم المجهول وأن يتحدى كل الأعراف والتقاليد ، وأن لا يهتم بما سيقوله الناس وردة فعلهم ، وقرر أن يقوم بدور المرأة (الجارية …. قوت القلوب ) فى مسرحية خليفة الصياد أولى المسرحيات التي قدمتها الفرقة في درنة.
لقد كان قراراً صعباً وشجاعا ومنذ تلك اللحظة التاريخية عرف سي أنور أن الفن والمسرح أصبح خياراً لن يتنازل عنه رغم كل الظروف والصعاب ….لقد رحل الرفاق وانسحب بعضهم ،ولم يبق إلا هو يصارع المجتمع والدولة والظروف والإمكانيات ، لكنه لم ييأس ، يتوقف أحياناً ويعود أحياناً أخرى ، يقاتل من كل كوة يحس أنها تمنحه بعض الضوء ، فيعمل مع جمعية عمر المختار في قسمها الثقافي ويقدم مع رفاقه مجموعة من الأعمال المسرحية …ويعمل مع فرقة أنصار المسرح ويقدم معها مجموعة من المسرحيات اهمها عمر المختار .
وعندما تأسست فرقة المسرح القومي والفنون المسرحية يتولى إدارتها ثم يتولى إدارة الهيأة العامة للمسرح بدرنه ..لقد ظل (سي أنور) دون غيره الخيط الرابط بين جيل الرواد ومن جاء بعدهم ..هو عميدهم وهو عرابهم .
لم يكن (سي انور) إنساناً عادياً …لقد كان دائماً وكما أراد هو أن يكون عاشقا متميزا في كل شيء ، والعاشق دائماً لا يشيخ ولا يموت ..كان عاشقا للمسرح ..عاشقا للشعر ..عاشقا للحياة ..عاشقا لتراثنا الشعبي الشفهي وكان مرجعاً فيه …تربطه صداقات بشعرائنا الشعبيين الكبار ويحفظ قصائدهم ويرددها وكان مرجعاً في أغاني العلم والتي كان يترجمها للغة الإيطالية التي كان يجيدها بجوار التركية ، فقد حكى لي أحد أعضاء فرقة درنة للفنون الشعبية ،أن الفرقة شاركت في مهرجان فني بإيطاليا وأثناء تقديم الفرقة لبرنامجها الفني صعد (سي أنور) على المسرح بلباسه الليبي التقليدي وخاطب الجمهور الإيطالي بلغتهم وترجم لهم بعضاً من الأغاني الليبية وأغاني العلم وحدثهم عن ليبيا وتراثها الفني فنال إعجاب الجماهير وكان نجم تلك الليلة …لقد كان فنانا في ملبسه ..في مأكله وفي مشيته وتصرفاته ..فنانا في عشقه للحياة …فنانا في ابتسامته وفي نوادره التي يسردها علينا ..في حبه للجميع ..في باقات الود والمحبة التي ينثرها للجميع وأمام الجميع ..
لقد رحل (سي أنور) وهو يتمنى أن يختم أيامه على خشبة المسرح ،وقد جاءت الفرصة حين شاورنا الفنان مفتاح شنيب بأنه يرغب أن يشارك ( سي أنور) في مسرحية ( قلبي في بلاد الأحلام ) ويخاف أن يرفض ،فقلت له لن يرفض( سي أنور ) فالعاشق لا يلوم العاشق ، وسي أنور يعرف للعشاق مقاماتهم اذهب إليه وسترى ولم يخيب سي أنور رجاء مفتاح شنيب ، وقبل أن يعمل في المسرحية ويقفل دكان الخياطة ويتدرب صباح مساء ….هذا الشيخ الذي تجاوز السبعين كان يعرف معنى الشوق للكلمة معنى الشوق للخشبة .
لكن أحلام العشاق وحدها لا تكفي …ولم تعرض مسرحية قلبي في بلاد الأحلام ،لأسباب كثيرة أهم ما فيها أنها أسباب واهية وتصرفات غير مسؤولة ، وظل حلمنا أن نشاهد سي أنور على خشبة المسرح صعب المنال ، فالذي لا تسكنه رجفة الشوق لا يعرف معنى الحب ،ومن لا تسكنه لحظة الوفاء يظل دائماً أسير أهوائه الشخصية ،
لم تعرض مسرحية (قلبي في بلاد الأحلام ) لفرقة المتحدين المسرحية ، ليتراجع سي أنور إلى دكانه …وقد طفح اليأس به وزحفت عليه الشيخوخة ، لقد كان يحلم أن يختم مشواره الفني بعمل مسرحي رائع فأتاح له مفتاح شنيب ما أراد فمسرحية قلبي في بلاد الأحلام وهي من تأليف (وليم سارويان) تعد من أجمل النصوص المسرحية العالمية ، التي لو قدمت لكانت إضافة رائعة في مسيرة المسرح الليبي
رحم الله سي أنور في ذكرى رحيله الثامنة والعشرين ، وسيظل ما قدمه لنا وللمسيرة الفنية في بلادنا ولمدينة درنة ديناً في أعناقنا وتاريخاً لن ننساه وسيظل في الذاكرة دائماَ فالمبدعون لا يموتون .
ميلاد منصور الحصادى.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :