أنيس البرعصي
ترجلت من السيارة مع حقيبتي وشتائمي،
وولجت لفندق عتيق بإضاءة خافته وكنبة يتيمة يحتلها عجوز هوليودي يجري اتصالات غامضة ينصت فيها أكثر مما يتحدث وكأنه يتلقى تهديدا
أو موعدا لتسليم الفدية أو استلام الجثة.
خلف الريسيبشن يجلس رجل نحيل، حليق الذقن، بملامح باردة تشبه ملامح منسقي أزهار الجنائز لكن تعامله كان أفضل بكثير للأمانة ..
فقد احتسب لي غرفة عائلية بسعر غرفة فردية نظرا لعدم وجود غرفة شاغرة لضيف قادم من بعيد سواء لديه أو لدى الفنادق المجاورة
التي اكتظت فجأة!
لذا أنا مدين له مسبقا له رغم عطل التلفاز ودرجة حرارة مياه الحمام التي لاتتغير
فتغنيك عن تنبوءات google بالطقس في الخارج..
على الأقل ستكون أفضل من معاناة الليلة السابقة التي قضيناها بالضواحي عند أقارب رفيقي
فبعد وصولنا مباشرة من الرحلة المنهكة كان في استقبالنا “ناموس مسرول”
يقحمك في مقايضات تحت ضغط الطقس الحار -قبل أن ينقلب فجأة-
فإما أن تغطي وجهك وتختنق من العرق
أو أن تسلمه يديك من تحت اللحاف ليشن هجماته الانتحا/ريه ويعود ليربض على أشواك الهندي.. وهذا غير مهم
المهم الآن أننا ننتقل بين الشوارع بسرعة الضوء
في مهمتان وسباق مع الزمن
أمانات يجب أن تسلم وأخرى ستستلم
وشوارع يجب أن استكتشفها -لأول مرة- قبل الرجوع من حيث اتيت لأرى ماسمعت عنه..
فإذ سألتني عن طرابلس فأنا لم أزرها قط
ولا أقارب لي بها ولا ذكريات سوى
طرفة حدثني عنها شخص ما في الحقبة السابقة وحدثت داخل سجن بوسليم تحديدا في بداية الألفينيات مع سجين ..
السجين لم تكن له تهمته واضحة الملامح ولم يحقق معه أحد لأشهر حسب مافهمت من الراوي.. فقط جرعة ضرب مبرح
صباحا/مساء مرتان بعد الأكل في الظلام
مصحوبة بحرب نفسية صامته دون اسئلة أو استجواب . دخل عليه ضابط التحقيق ذات مرة وسأله سؤال واحد فقط بلكنة صارمة وملامح تشبه السكتة القلبية:
– اتصلي ؟
فأجاب : إن شاء الله ..
فبطشوا به وانهالوا عليه بالضرب بالهروات دون مقدمات وعاد إلى روتين الجرعات الصباحية والمسائية ..
وبعد قرابة شهر جاء ذات الضابط بذات اللكنة والملامح متأبطا ذات السؤال : اتصلي ؟
فقال له بعد نوبة تفكير : لا ..
فأنفجر غاضبا : وخيرك ماتصلي ينعن …..
شتم والدته
وتحصل على ذات النتيجة من الإجابتين + شتيمة مجانية
وافرجوا عليه لاحقا ..
ويعد هذا أسلوب فتاك في السجون وينزع الاعتراف من لسان صاحبه ويجعله يتذكر مالم يفعله قط وهو فعال للغاية ..
حسنا فلنخرج من رطوبة الزنزانة ولنعد أينما كنا
نعم .. المدينة شاهقة وسأكذب عليك إن أخبرتك إنها ليست بجميلة، خاصة ليلا، وأناسها -رغم انشغالاتهم- وركضهم، يختلسون الفرص لمراقصة الحياة فيها بكل الطرق
ويجيدون صنع الذكريات والمقبلات ..
ربما وقفتك لطلب كوب مكياطة ستنحت في رأسك؛ على ناصية مقهى يطل على مشجعي نادي المدينة الذين يشبهون البحارة في تشبثهم بمركب فريقهم رغم اقتراب عاصفة الهبوط،
فبدلا من القفز يلقون النكات نكاية فيها
ويتناولون الرهانات مع قهوتهم
شاهرين ألسنتهم في وجوه بقية الأندية المتربصة..
ويمنحونك ضحكة خفيفة وصداقة عابرة
يخففان عنك وطأة الغربة في هذه المدينة التي تتجلى لك قيمتها لديهم -عمليا- في المدينة القديمة ..
فمايقدمونه هناك من تغذية بصرية ماتعة لاتفسير لها سوى حبهم لها وارتباطهم بها بطريقة متزنة
لاتنفر من هو غريب عنها
وتزينها في عينه رغم تعلقه بمدينته البعيدة ..
كان في بالي الكثير مما سأدونه
حتى صباح الثلاثاء الماطر
الذي استيقظنا فيه على مشهد كسر قفلي باب السيارة ودرج الأمانات نظير ثقة عمياء أو بالأصح حماقة من رفيقي الذي ظن بأن ركن السيارة أمام الفندق سيكون كافيا لسلامتها ..
غادرنا الفندق والشياطين تتشقلب داخل رؤوسنا
في لحظة تشابهت علينا أصابع الاتهام بالأيادي الممدودة ولا يد تهمنا سوى يد ذلك الوغد
حفيد علي بابا، وكما أخبرتكم ..
تلك المدينة الفاتنة تجيد صنع الذكريات والمقبلات
لكن مذاقيهما متروكان للحظ.