ما أحوجنا ونحن نستقبل عاماً جديداً أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وواقعنا مع رسول -صلى الله عليه وسلم- في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وإذا كانت هذه الافتتاحية المتواضعة لا تتسع لجميع معاني الهجرة وما حوته من دروس وعبر، فسوف نختار منها قيمة الزمن وأهميته.
لقد جاهد -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله عليه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ورَبَّكَ فَكَبِّرْ* وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1-4]، فكان صلى الله عليه وسلم يواصل الليل مع النهار والسر مع الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش ووعيدها.
واستجاب له منذ بداية الدعوة صديق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجه خديجة بنت خويلد، واستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، رضى الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
وتعهد صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم فيحفظهم ما ينزل عليه من القرآن الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق، ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان -صلى الله عليه وسلم- قدوة لهم في جميع أقواله وأفعاله.
وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في الدعوة إلى الله وفي التزود من علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضله، وكانت العقيدة في نفوسهم أهـم من المال والأهل والولد، وعندما خيروا بين الوطن والقبيلة ورغد الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والهجرة في سبيل الله.
لقد صدق الصحابة -رضوان الله عليهم- ما عاهدوا الله عليه، وعندما ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما نادى منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول {وعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84].
وبعد ثلاثة عشر عاما من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمداً وأصحابه – صلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم – بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.
ثلاثة عشر عاماً كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها!!.
ثلاثة عشر عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض.
ثلاثة عشر عاماً من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.
فأين نحن اليوم من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؟.
لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه.. فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟!.
ماذا قدمنا فيه كأفراد وكشعوب، ليوم كألف سنة مما تعدون؟!.
إن الجواب على هذا السؤال مخجل ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في عمل قلما تنتفع به الدعوة الإسلامية، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء مع أهله ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في رعاية شؤون البيت والولد، ثم ينام، ثم يعود في الصباح إلى عمله وهكذا.. إنها – والحق يقال – حياة كالتي وصفها الحطيئة في هجائه للزبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
لقد شغلتنا أموالنا وأولادنا عن طاعة الله والجهاد في سبيله، ونحن الذين حذرنا الله -جل وعلا- من فتنة المال والولد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ * وأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * ولَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إذَا جَاءَ أَجَلُهَا واللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 9-11].
وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك» رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه».
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة، وفي الجهاد في سبيل الله، أم أفنيناها في اللهو والتفاخر بالجاه والمال والولد.
ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السان، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أم أبليناها في تناول ما لذ من الطعام والشراب؟!.
والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ولا أَدْنَى مِن ذَلِكَ ولا أَكْثَرَ إلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7].
وقد انتبهت الأمم الأخرى إلى قيمة الوقت وأهميته، فالناس في جميع بلدان العالم كانوا يظنون أنه لن تقوم للألمان قائمة، بعد دمار بلدهم، وهلاك الحرث والنسل فيه خلال الحرب العالمية الثانية.. ولكن أصحاب العقول من العلماء والحكماء والسياسيين الألمان راحوا يعملون بهمم جبارة، ورفعوا شعار العمل ساعتين مجاناً في كل يوم من أجل بناء بلدهم، واستجاب الشعب لهم، وهبوا جميعاً يعملون على قلب رجل واحد، وخلال زمن يسير عادت ألمانيا دولة قوية مرهوبة الجانب وكأنها لم تتعرض لدمار شامل.
فتصوروا لو عمل المسلمون ساعتين في اليوم مجاناً في سبيل الله.
لو كان عملهم في مجال الاقتصاد لكان دخل الدعوة الإسلامية لا يقل عن ألفي مليون دولار في اليوم الواحد، وسيكون خلال شهر واحد ستين ألف مليون دولار، ولو رصد مثل هذا المبلغ في سبيل الله لتغير وجه الأرض شريطة أن يصاحبه تخطيط وصدق ولو كان عمل المسلمين في مجال تبليغ الدعوة لدخل الناس في دين الله أفواجاً في كل مكان من المعمورة، وأصبح الإسلام دين البشرية كلها.
ولو كان عملهم في المجال العلمي بجميع جوانبه وفروعه، لقاد علماء أمتنا العالم ولانتهت أسطورة اليهود وغير اليهود وفضلاً عن هذا كله، فنحن أحق من الألمان بمثل هذا العمل لأنهم يعملون من أجل دنياهم، ونحن نعمل من أجل دنيانا وآخرتنا. فهل نبدأ عامنا الجديد ونحن أكثر استعداداً لعمل الخير وطاعة الله سبحانه وتعالى؟!. وهل نتخلى عن السهرات والجلسات الفارغة وما يدور فيها من غيبة ونميمة ومراء ونفاق؟!. وهل نستفيد من أوقاتنا، ونحزن على كل يوم يمضي من أعمارنا دون أن نعمل فيه عملاً طيباً خالصاً لوجه الله؟!.
وهل نجدد العهد مع الله، ونتأسى برسول الله وأصحابه الغر الميامين – صلى الله على رسوله وعلى آله وصحبه وسلم – الذين عرفوا كيف يستفيدون من أوقاتهم؟!.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تجعلنا من الخاسرين الذين يؤثرون العاجل على الآجل والفاني على الباقي.