اختتام مهرجان أيام قرطاج المسرحية ” مسرح يكتب جوائزه بالضوء و حصاد دورة ملئت بالجمال والحرية “

اختتام مهرجان أيام قرطاج المسرحية ” مسرح يكتب جوائزه بالضوء و حصاد دورة ملئت بالجمال والحرية “

  • متابعة نيفين الهوني تونس خاص

شهد مسرح الاوبرا بمدينة الثقافة في تونس مساء التاسع والعشرين من نوفمبر الجاري حفل اختتام الدورة السادسة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية وذلك في اجواء احتفالية جمعت عددا كبيرا من الفنانين والمبدعين والضيوف العرب والافارقة وتميز الحفل بأداء مسرحي افتتاحي لعمل تونسي حمل توقيع فاضل الجعايبي قبل المرور الى فقرات التكريم وتوزيع الجوائز الرسمية للمسابقة وقد جاءت كلمة مدير المهرجان منير العرقي لتؤكد على روح هذه الدورة التي سعت الى جعل المسرح فضاء للإبداع والتعبير والوعي ووسيلة لجمع الناس حول قيم الحرية والتسامح كما أشار إلى أن المهرجان تزامن مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني بما يعكس ارتباط الفن بقضايا الانسان وحقوقه وقد تميزت دورة هذا العام بتنوع كبير في البرمجة حيث شملت أكثر من ثلاثة وثمانين عرضا مسرحيا من بينها اثنا عشر عرضا في المسابقة الرسمية وهم :

عرض الهاربات تونس للمخرجة وفاء الطبوبي وعرض جاكراندا تونس للمخرج نزار السعيدي وعرض عباءة المجانين الكوت ديفوار للمخرج  فاغبا أوبو ديسال وعرض ولد حرا جنوب إفريقيا للمخرج زولاني لورانس نهلابو وعرض الجدار العراق للمخرج سنان محسن العزاوي وعرض باراديسكو لبنان  للمخرجين سامر حنا و لين بواب وعرض هم المغرب للمخرجة أسماء الهوري وعرض كرنفال روماني الجزائر للمخرج موني بوعلام  وعرض ريش فلسطين للمخرج شادن أبو العسل وعرض الملجأ الأردن للمخرجة سوسن دروزة  وعرض سقوط حر مصر للمخرج محمد فرج خشاب وعرض جرّ محراثك فوق عظام الموتى الإمارات العربية المتحدة للمخرج مهند كريم وقد اختارت اللجنة 12 عرضا للتنافس الرسمي، إلى جانب برمجة واسعة للأقسام الأخرى (مسرح العالم، العروض التونسية، العروض للهواة، مسرح الحرية، عروض الطفولة والناشئة، وغيرها) ومثلا تونس في المسابقة هذا العام عرضا (الهاربات) و(جاكراندا) في حين توزعت بقية الاعمال بين عروض عربية وافريقية ودولية وهي: عرض سر المنحوتة من السعودية وعرض حمام الهنا من الأردن وعرض رَحِم من ليبيا وعرض السيرك من العراق بالإضافة إلى هذه العروض هناك : 16 إنتاجا تونسيا 15 عرضا في (مسرح العالم ) 12 عرضا للأطفال والناشئة و 6 عروض للهواة والعروض تمثل تنوعا جغرافيا من شمال إفريقيا الشرق الأوسط أفريقيا جنوب الصحراء إلى منطقة الخليج لذا فالمسابقة وعروض الهامش هما منصة لتلاقح تجارب مسرحية عربية وأفريقية متنوعة اضافة إلى قسم خاص بمسرح الحرية الذي يقدم أعمالا من داخل السجون ومراكز التأهيل وقد حرصت ادارة المهرجان على تكريم عدد من رموز المسرح التونسي تقديرا لمسيرتهم واسهامهم في تطوير المشهد الفني من بينهم محمد مسعود ادريس وعبد الحميد بن غياث إلى جانب مجموعة اضافية من الاسماء التي كان لها أثر واضح في الفعل المسرحي.

قرطاج تودع دورتها بعبق التجريب ووهج التانيت

أسندت النتائج في حفل الاختتام على النحو التالي: نتائج المسابقة الرسمية فقد توج عرض (الهاربات) من تونس بالتانيت الذهبي وفاز عرض (الجدار) من العراق بالتانيت الفضي فيما آل التانيت البرونزي الى العمل التونسي (جاكرندا) ونالت لبنى نعمان جائزة أفضل أداء نسائي عن دورها في الهاربات بينما توج أحمد أبو زيد من مصر بجائزة أفضل اداء رجالي عن مشاركته في عرض (سقوط حر).

وتم اسناد جائزة أفضل نص الى وفاء الطبوبي عن كتابة عرض (الهاربات) فيما عادت جائزة السينوغرافيا الى العمل العراقي (الجدار) بتوقيع الفنان سنان العزاوي كما توجت لجنة جائزة نجيبة الحمروني لحرية التعبير العرض التونسي(الزنوس) مع منح اشارة شرفية لعمل (ميتامورفوز) في حين سجل قسم مسرح الحرية حضوراً لافتاً من خلال تكريم عدد من الاعمال المنجزة داخل السجون على غرار سد العقل ومولى الباش وأعمال أخرى من مراكز اعادة التربية والتأهيل من بينها وحياة بلا إيمان وسهرة سرية وأولاد عروش وقد عكست هذه الدورة توازنا لافتا بين الحضور التونسي والعربي والافريقي وهو ما منح المهرجان بعدا ثقافيا أوسع وعمقا فنيا أكبر مع مشاركة عروض تعتمد التجريب والبحث الجمالي في الاداء والسينوغرافيا إلى جانب عروض ذات طبيعة اجتماعية وانسانية. وبهذا اختتمت أيام قرطاج المسرحية دورة اتسمت بالجرأة والتنوع وبدت أقرب الى منصة مفتوحة للحوار الابداعي بين فنانين من مشارب متعددة مع وعود بدورات مقبلة أكثر قوة وثراء.

عروض شاركت وأخرى تميزت

كرنفال روماني مرثية إنسانية للفنان العربي

العمل إنتاج المسرح الجهوي محمد الطاهر الفرقاني (قسنطينة، الجزائر) واخراج موني بوعلام  مقتبس من نص للكاتب المجري ميكلوش هوباي، مع معالجة درامية معاصرة وقد قدم كرنفال روماني خلال فعاليات بعض المهرجانات المسرحية في الجزائر وفي عرض شرفي في قسنطينة قبل مشاركته في دورة 26 من أيام قرطاج المسرحية 2025 ضمن المسابقة الرسمية النص الأصلي لكرنفال روماني يسترجع قصة ممثلة مسرحية من زمن مضى  شخصية تدعى مارجيت كانت في شهرتها في الماضي ثم  سقطت في عزلة وفقر ووجدت نفسها في أقبية المسرح بعد أن خيب الزمن آمالها المعالجة العربية/الجزائرية للعمل قررت أن تبرز هشاشة الفنان أمام سلطة الزمن وتراكمات النسيان المسرح ذاته يصبح رمزا للمجد ثم للنكوص والبطلة تواجه صراعا بين ماضيها المجيد وهشاشة حاضرها فتحول العمل إلى مرثية درامية نقدا لفكرة المجد الزائل وصرخة ضد الإهمال الذي يعاني منه الفنان في الجزائر وفي كل الوطن العربي تقريبا .

الديكور في كرنفال روماني اعتمد على الفضاء المسرح القديم القبو الظلال الفضاءات الضيقة أو المهجورة كل هذه العناصر لخدمة حالة الانهيار والانحطاط الرمزي التي تعيشها بطلة العمل والمعالجة السينوغرافية أكدت على فراغ الروح من خلال فراغ الخشبة الضباب الإضاءة الخافتة أغلب الوقت والصمت أو الصوت الداخلي تبادل المواقع كلها أدوات لجعل الجمهور يعايش خلال العرض الإحساس بالضياع الفقد والحنين لمجد  زال وزمن انقضى وهكذا تحول المسرح إلى مرآة لحياة الفنان والبشر أيضا وكيف يتغير الحال بمرور الوقت  أما التجسيد كان مزيجا من التراجيديا والكوميديا ما يعرف بالكوميديا سوداء فالشخصية تتأرجح بين ذكريات المجد وآلام الحاضر بين تصالح مؤقت مع الواقع ومرارة الذكرى حيث تحول الأداء إلى مؤلم وصادق في آن واحد والتناغم بين التمثيل الحركي والصمت واستغلال الفضاء وديكوره البسيط جعل الجمهور يعايش مع مارجيت ذاكرتها وأزمتها ويتعاطف معها إنسانيا كرنفال روماني تجربة فنية تعرض مشكلة إنسانية وهي هشاشة الفنان بمرور الزمن والنسيان والانتهازية من زاوية عميقة بلغة مسرحية دون تهريج أو تجميل والعمل أثبت بأن النص المستورد (من لغات وثقافات أخرى) يمكن أن يترجم إلى واقع معاصر عربي جزائري أو أي جنسية أخرى شرط الاتقان و المحافظة على عمق الفكرة مما يمنح  فضاءات للحوار والتأمل . العرض سبق أن تحصل على (أربع جوائز في تظاهرة عربية سابقة) وهي جوائز تؤكد أن كرنفال روماني هو عرض متكامل نصا وإخراجا وأداء وسينوغرافيا وعلى الرغم من جمال العرض وتميزه حصل بطله يحيى إبراهيم شاكر بولمدايس على تنويها بأدائه فقط حيث رشح لجائزة أفضل ممثل ولكنها لم تكن من نصيبه بينما لم يتحصل العرض على أية جوائز أخرى في قرطاج .

عباءة المجانين في الكوت ديفوار

عباءة المجانين عمل من كوت ديفوار يقدم عرضا دراميا واجتماعيا عن ثلاث نساء يلتقين بعد سنوات ويتحدثن في شكل اعترافات عن صراعاتهن ومخاوفهن وأوجاعهن التي ظلت مدفونة خلف أقنعة المجتمع والنص يضع تساؤلات حول الهوية القناع الصمت الضغوط المرأة الزواج والكبت الاجتماعي ويعد العرض من أهم العروض في هذه الدورة فقد نفذ العرض بشكل قوي تمثيلا وإخراجا وسينوغرافيا وعلى الرغم من  جودة الأداء وقوة الفكرة ورسالتها لكنه لم يتحصل على أي جائزة وهذا غريب فهي مسرحية درامية تحليلية تطرح موضوعات اجتماعية وإنسانية مثل  الصداقات القديمة والوقت الذي يغير الناس و الضغوط الاجتماعية الزواج ودور المرأة والتوقعات الاجتماعية و الصمت والكتمان والصراع الداخلي الناتج عن الإصرار على القناع الاجتماعي ثم إن الاجتماع بعد 22 سنة أعطي بعدا عاطفيا ونفسيا عميقا فاللقاء بينهما هو العلاقة بين ماض ومعادلة واقع و بين أحلام الشباب وواقع النضج والخيبة العمل حسب الملخص الذي ورد في الكتيب لا يعتمد على بحث جريمة مادية أو إثارة بالمعنى التقليدي للجريمة الجريمة هنا كانت الصمت والاستسلام والكذب العاطفي فالعنوان نفسه (عباءة المجانين) يوحي بالصمت والقناع و(عباءة) هي غطاء الحقيقة لكن النساء في العرض هن اللواتي لا يقبلن القناع أو اللواتي يعشن داخليا في اضطراب لأنهن يرفضن التظاهر تحت ضغط المجتمع هذا أعطي للمسرحية بعدا نفسيا اجتماعيا يطرح أسئلة على التقاليد ودور المرأة والعيش تحت مظاهر (الرضا الزائف) وقد نجحت هذه الرؤية في التمثيل والإخراج فكان العمل محاولة صادقة ومهمة لإبراز (وجع إنساني) وإعادة قراءة واقع اجتماعي من زاوية أنثوية.

عرض هم العزلة والصوت الغامض رحلة داخل الذات المسرحية

هو مشاركة المغرب في المهرجان ضمن المنافسة الرسمية في الدورة 26 لأيام قرطاج المسرحية النص المكتوب للشاعر عبد الله زريقة والإخراج للمخرجة المغربية أسماء الهوري العمل مسرحية تجريبية تمزج بين الأداء الجسدي والتمثيل والموسيقى وتعتمد على الإضاءة بوصفها عنصرا دراميا ينسج الحالة الشعورية ويعمق توتر المشاهد وتتمحور أحداثه حول شخصية ضائعة بين ذاتها وكلماتها تعيش عزلة مضطربة لا يبددها سوى صوت خارجي مبهم يتسلل إلى عالمها المغلق يندرج العرض ضمن برمجة الدورة التي ترفع شعار المسرح وعي وتغيير المسرح نبض الشارع فعكس رؤية المهرجان نحو أعمال تعالج قضايا إنسانية واجتماعية راهنة وتتشابك مع انشغالات الإنسان المعاصر.. العرض حمل روحا بصرية وفكرية تقوم على اختزال العالم في مساحة صغيرة يتحرك فيها الجسد بوصفه وثيقة احتجاج وصمت في آن واحد ينفتح العرض منذ لحظته الاولى على باب احمر يقف في وسط الخشبة بوصفه علامة على المنع والاقصاء وهو الديكور الذي يستوعب حركة الممثلين وتوترهم وأصواتهم أما الاضاءة فهي بسيطة حد القسوة اذ تسلط الضوء على الكراسي والقمامة التي تنتشر حول المكان وكأنها شواهد على الخراب الداخلي الذي يعيشه الانسان في هذا الفضاء المتوتر ينبني خطاب العرض على ظلال موضوعات الظلم والصمت وحرية الرأي فتأتي الاغنية الوترية التي تتخلل المشاهد كأنها صوت داخلي يحاول الخروج من القمع الذي يضغط على الشخصيات يدخل الممثلون حاملين كراسيهم فوق ظهورهم في صورة تختصر معنى أن يتحول البيت الى عبء وأن يصبح المكان آمان مفقود لحياة غير مستقرة وتتجسد الفكرة عبر اجساد تتشابك ثم تنفصل كما لو أن العلاقات الانسانية محكومة دائما بالانهيار حين يتناثر الورق الابيض في الهواء ورق لم يكتب فيه شيء يظهر كأنه بيان ينتظر من يوقعه أو ذاكرة محيت منها الكلمات ويتحول الخواء الداخلي إلى حركة جسدية تفسر الامتلاء الموجع الذي لا يعرف طريقا للخروج في المقابل يستخدم الممثلون تقنية الاختباء ثم الظهور وكأنهم يبحثون عن مساحة آمنة للتعبير محاولين الاختراق عبر تقليد بعضهم وتتبع خطوات الآخر ثم محاولة الاختلاف عنه .

النص المسرحي يقوم على مقاطع قصيرة أشبه بالصراخ المتقطع لا يقدم سردا بل يقدم حالات انسانية مفككة تعكس وعيا بوجود مجتمع فقد قدرته على الكلام ولم يبق أمامه سوى الجسد ليقول ما يريد تعتمد السينوغرافيا على التكرار البصري للباب الأحمر والكرسي وهما علامتان تشكلان حدود الحركة وحدود الحرية و تكشفان ضيق العالم الذي يتحرك فيه الممثلون التمثيل يمتاز بطاقة جسدية عالية إذ يتعامل الممثلون مع الفضاء كأنه مقاومة مستمرة يحملون الكراسي يمشون بها يختبئون وراءها يجلسون فوقها ثم يتركونها في الوسط كأنها شاهد على ثقل الحياة ومع كل حركة تتصاعد تكات الساعة التي تسمع في الخلفية لتذكر الجمهور بالوقت الضائع والانتظار الذي لا ينتهي في النهاية يتحول العرض الى لوحة عن إنسان معلق بين رغبة في الحرية وجسد مثقل بالخوف عالم بلا كلمات وورق أبيض بلا حبر ووجع داخلي يحاول أن يخرج من خلال الإيماء والحركة والإضاءة والعتمة إنه عرض يعبر عن زمن يقترب فيه الصمت من أن يصبح لغة كاملة ويصبح الجسد وحده القادر على الكلام

رحم رحلة النشوء والصراع من رحم الألم إلى نور الولادة

رحم هو عرض ليبي ضمن العروض العربية على هامش مهرجان قرطاج المسرحي وهو من إخراج المخرج الليبي عوض الفيتوري ومن تمثيل الفنان حاتم قرقوم والفنان حسين العبيدي حيث عرض في مسرح الحمراء كتجربة مسرحية تجريبية فريدة تجمع بين الأداء الجسدي والموسيقى واللعب بالإضاءة كعنصر درامي أساسي ينسج الحالة الشعورية للممثلين والجمهور معا والعرض (بانتوميم) أو (بانتومايم) أي يعتمد على الأداء الجسدي التجريبي الصامت ومدة العرض تقريبا 40 دقيقة وتدور أحداث العرض الذي ذكرت صحيفة اليوم السابع أنه لقي ترحيبا من الحضور وحقيقة هذا ما حدث لأن العرض كان مفاجأة لي وللجمهور معا  تدور حول شخصين داخل رحم الأم يعيشان تجربة ولادة رمزية تحمل أبعادا فلسفية وإنسانية عبر عرض سينمائي في شاشة جاءت كخلفية للركح وعلى الرغم من أن المفكرة مكررة وسبق استخدامها الا أن الموضوع والألوان والاضاءة شدت انتباه الجمهور وادخلته معها في الدائرة ذاتها فشعر كل من حضر أنه يشهد ولادة متعسرة فعلا ثم  تبدأ المعاناة منذ التخلص من كيس الرحم لطفلين توأمين يحاولان الحبو للوصول والتعب والسقوط ومحاولة الوقوف مجددا رغم الصعاب في لعبة متكررة من الانفصال والالتصاق حيث يتشابك الجسد مع لغة الموسيقى والإيقاعات العالمية التي وظفت في مكانها وتصاعدت لتحاكي صراعات الإنسان مع الحياة والوجود ثم تتطور الأحداث الصامتة والمتلاحقة في عرض مشحون بالمحاولات المستمرة للنجاح والانتصار تتخللها الكثير من الاسقاطات السياسية والاجتماعية لمجتمع ولد من رحم وطن واحد ثم انفصلا بعد الالتصاق كتوأمين  يواجهان الغدر والخيانة والانتقام في تصوير رمزي لصراع وهمي بين شرق الوطن وغربه صنعه العدو وغذته الفتن الدخيلة عليه وواقع مأساوي ارتبط بالحرب والفتنة والقتل الذي لم تستثنِ أحدا في هذا الوطن وفي لحظات فاصلة يظهر البحث عن الأكسجين الاصطناعي كرمز للحاجة إلى الحياة والانعتاق لكن هذا الاكسجين يتحول إلى هواء خانق مسموم عندما نكتشف أن الأيدي التي منحته لنا ملوثة بدماء أبنائنا ولازالت متعطشة لمزيد من الدم والفناء  كل هذه التفاصيل تترافق مع نغمات موسيقية عالمية تتصاعد لتؤكد حالة الكفاح والتنوع والتغير والتجدد كل مرة للوصول إلى بر الأمان وحماية النطفة الجديدة النبتة الوليدة حتى لا تعاني ما عانيناه نحن وما تجرعناه على مدى سنوات  وفي مشهد النهاية يتمكن أحد الشخصيات من الإمساك بما يرمز إليه الضوء/ الكوة التي كانت طوال العرض تأتينا كعناية إلهية وكوة نجاة لكننا لم نتمكن من خلال البطلين الإمساك بها ..لكنه يستطيع في آخر لحظات العرض من الإمساك بها في لحظة بكاء وتأمل على عمر أضاعوه فيما لا يجدي ليبدأ من جديد في زرع نواة جديدة في الأرض الوطن ومحاولة حمايتها بما تبقى له ولنا من حياة في إشارة رمزية إلى ولادة جيل جديد ونشأة عهد جديد وسط وعود بإعادة الحياة وتجدد الأرض بعد العواصف في إسقاط واضح على معاناة الشعب الليبي وآماله في البناء والنهضة بعد سنوات الصراع المرة السينوغرافيا والإضاءة استخدم العرض عناصر بسيطة لكنها معبرة: الكوة أو الحجر المضيء كرمز لعدة أشياء متغيرة منذ بدء العرض حتى نهايته فمن حلول السماء إلى ضياء الفكرة إلى النجدة الإلهية إلى النواة الجديدة أما الرموز المادية مثل كيس الرحم والورق الأبيض المتناثر مع موسيقى متدرجة حسب الحالة الشعورية للشخصيات فقد كانت موفقة جدا في التعبير وإيصال الفكرة الإضاءة أيضا لعبت دورا محوريا في توجيه التركيز على أحد الشخصيات في لحظات معينة بينما الآخر يعاني في الظل ما يعكس التباين بين الألم والأمل بين الاختناق والانعتاق وبين الخوف والشجاعة والجبن والجرأة والأمان المفقود  والطمأنينة إلى أن الله موجود أما الأداء ولغة الجسد اعتمد المخرج الذي فاجأني كوني أعرفه فني إضاءة بقدرته على تطويع البطلين وتدريبهما على الأداء الجسدي المكثف حيث تداخلت حركات الممثلين المميزين حقيقة ولغة جسدهما مع الموسيقى والإيقاع بشكل متقن مع محاولات مستمرة للتعبير عن الصراع الداخلي والبحث عن مخرج والتحرك ضمن مساحة رمزية تمثل الرحم والولادة والموت والحياة فقد تميز الممثلون بمرونة جسدية عالية اغبطهم عليها وكانت مفاجأة للجميع  فأظهروا قدرة على التفاعل مع العناصر الرمزية والسينوغرافية – التي سبق وأن شاهدتها في عرض اهريمان للمخرج والسينوغرافي العراقي علي السوداني والذي أشار الفنان حاتم قرقوم في لقاء معه بأنه ساعدهم في العرض

وواضح أنه من أقترح عليهم الاستعانة بالعرض العراقي أهريمان هو عرض مسرحي إيمائي تجريبي من العراق اعتمد على الرقص التعبيري (كيروغرافيا) والحركة الجسدية بدلا من الحوار النصي- فاستطاعا  توظيف لغة جسديهما بشكل محترف للتعبير عن المشاعر الصامتة والرمزية دون الحاجة إلى حوار لفظي مباشر فنجحا في نقل المشاعر الداخلية للشخصيات الصامتة والموسيقى العالمية وظفت بشكل مدروس لترافق الحالة الدرامية متدرجة بين النغمات الحادة التي تعكس الألم والمعاناة ونغمات أكثر هدوءا وحميمية متزامنة مع لحظات الأمل البدء من جديد تعزيزا للحالة الشعورية والتوتر الدرامي في العمل  كما استخدمت التراتيل والتعاويذ الرمزية لتأكيد الطابع الطقوسي والرمزي للعمل لتبيان الاسقاطات السياسية فالعرض يربط بين الصراع الشخصي والمجتمعي في ليبيا الحبيبة مع رمزية واضحة للبناء والنهضة بعد الخراب فهو يعكس واقع الحرب والفوضى في ليبيا الفتنة الداخلية البحث عن أمل جديد وسبيل آخر للخروج من النفق المظلم الذي ابتلعنا منذ سنوات مع تصوير رمزي لصراع الإنسان مع قوى خارجة عنه وأخرى داخلية واستدعاء رموز الولادة والإنقاذ والأمل كدعوة للتفكير في إعادة البناء الوطني والاجتماعي وما لاحظه الجمهور المختص في العمل وما تناقشنا فيه وما أثلج صدري هو أن نقاط الضعف لأي عمل مثل غياب النص الحواري والذي قد يصعب على بعض الجمهور متابعة المعاني الرمزية بالكامل وكثافة الرمزية أحيانا التي قد تربك المتلقي غير المعتاد على المسرح التجريبي وعدم توافر وسائل بصرية إضافية (ديكور موسع  أو صور أو مؤثرات أكثر) والذي جعل بعض المشاهد تعتمد بشكل كامل على تخيل الجمهور هذه النقاط على عكس المتوقع والسائد كانت مصدر قوة للعرض وأعطت الجمهور الذي بات ملما بما تعانيه ليبيا مساحات وبراحات من توقع وتخيل ومعايشة مالم يقال في العرض والذي قد لا نستطيع البوح به لسنوات قادمة عرض رحم لعوض الفيتوري وبطليها حاتم قرقوم وحسين العبيدي تجربة مسرحية تجريبية غنية بالرموز والإيقاعات والأداء الجسدي قدمت مشهدا فلسفيا وإنسانيا عميقا يعكس آلام الشعب الليبي وآماله في التغيير وعلى الرغم  من صعوبة بعض المشاهد على الفهم المباشر وحساسية وألم مشاهد أخرى من العرض إلا أنه نجح في تقديم تجربة حسية وشعورية متكاملة تجمع بين الأداء الموسيقى و الإضاءة والرمزية السياسية والاجتماعية

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :