- د. نورالدين محمود سعيد
سأعود لأتحدث عن الإبداع في ظاهرة الخفة في شعرنا الشعبي. منذ زمن كنت ممتناً لـ بيرسيوس، إثر قطعه لرأس ميدوزا، مستعيناً بشيئين: هيرمس الإلهة من جهة، والمرآة التي انعكست فيها صورتها فسارت نحوها من باب الغيرة من كل من هو أقبح منها، غيرتها الأولى من الجمال كانت مع آثينا ربة أرباب اليونان، غرورها بروعة جمالها وكفرها بالأماكن المقدسة التي مارست فيها الرذيلة، هو الذي أدى إلى أن تعاقبها الآلهة بأن تتحول إلى أقبح قبح عرفته الدنيا، ثم حين رأت آثينا ما فعلت ميدوزا القبيحة من رذائل متكررة، أمرت بقطع رأسها من خلال فارس شاعر، بيرسيوس الفخم، كان أخف من أصغر ريشة عند أصغر طائر في البرية، هبط على رأسها المكسو بالأفعوانات القبيحة وقطعه بعد أن خادعها بالمرآة. بيرسيوس في رأيي كان قد كتب قصيدة. أراني الآن حشوت بيرسيوس في هذه الأسطر، ليس من أجل الخلاص من ميدوزا القبيحة فقط، ولكن من أجل أن أحيله إلى قطعة في قربة جلد، علّها تكون نافعة كي أرقع بها ما أريد، للوصول إلى نسيج في أبيات من شعرنا الشعبي ليس أكثر، سيذهب بيرسيوس جنباً إلى جنب مع السنوسي الحمري، وأمحمد الغزالي بن عيسى، وكذا ناصر العقوري، وسالم الدرياق، وغيرهم ممن اشتركوا في ملحمة الضياع بديعة الصنع، حتى كأنك تدوخ أي الأبيات أجمل من سابقاتها، أم أن اللاحقات أجمل، ولعلي محقاً فيما أصبوا إليه في أن أفتتح نصي بالقضاء على القبح، من خلال شعر ثقيل المعاني، خفيف النسيج، يتلحف بحلة الجمال وحده فالجمال هو السيف البتار الأمثل لقطع رأس كل قبح يمشي على الأرض، أو يطير في السماء. حين تم إنشاء أول سوق للكلام في الكرة الأرضية وكان ذلك في أرض الحجاز العربية، كان باقي العالم يغط في همهمات وإشارات وصرخات أشبه بصرخات القرود. وحتى حين تشظت اللغة العربية إلى لهجات، لم تكن اللهجات لتفقدها رونقها، بل زادت من سعير فعل الخفة الكلامية واللحنية للأبيات في كل الأقطار الناطقة بلغة الضاد، وتمت السيطرة على الكلام في قوالب شعرية أيضاً، هاهي أمثلة، لن أكون ناقداً لها، سأتبين فقط منها “صنعة” خاصة جداً تميز شعراءنا الشعبيين وليس شعراؤنا الحداثويون: الشاعر “ناصرالعقوري “، في رده على السنوسي الحمري، لم يكن ليمتلك قوة بيرسيوس الخارقة، لكنه قطع رأس ميدوزا ـ التي حالت دون أن ينال ما يتمناه ــ بلسانه لا بسيفه: عارك لين طاح .. عليه العقل لكن راح راح صبّا دون ياسه بالسلاح .. امغير خداه منا بالذراع، أونا تميت في مصفق أرياح .. ابقي للياس صوبي بالجماع اهموم الوقت دراني امراح .. من رايات مبهوت الخناع، اتحوش الليل وتمد الصباح .. ردن في كيل اللوح صاع. الشاعر “السنوسي الحمري ” هو الذي بدأ بالترقيش وبناء خليته لكي يطير بقية الشعراء إليها: كونه ضاع ضاع .. جريت وراه حد المٌستطاع .. افراقه صار. كونه عك عك .. وكونه امعاي خبّل ماسلك، ماسلمت راهو انفك فك .. جنين الكبد واخذاني امزاع انحوس اتقول حاصل في شرك .. انفك ايدين تحصلي اكراع. فجاء رد الشاعر ” أمحمد الغزالي بن عيسى ” ليؤكد مدى المسائل التي تتعقد فيها التراجيديات كثقل على رقاب الشعراء نتلذذ بها نحن كقراء: كونه راح راح .. وكونه فقد فعل(ن) فقد صاح وكون اترد لايام السماح .. ماضنيت لا ضنيت باع ارياح القسم لطنهن ارياح .. وصاف غلاه في عز الارجاع وني مازلت معقود الجناح .. انراجي فيه من يوم الاوداع وهو بغلاي مطلوق السراح .. انسي ماصار تحلف ماالتاع. ويزيد على أبياته ليؤكد على جوانب أخرى خفية في تيمة “الخفة” التي من أجلها أردت الإشارة لهؤلاء الشعراء في كلامي، الحقيقة أن الكلام المتخفي وراء النسيج الخفيف، يحتاج ليس إلى أسطر بل إلى مجلدات، أنا الآن أقف أمام استشهادات حقيقية للخفة، ليس شرطا أن أتبين مداها لأنها تترجم نفسها، لاحظوا: كونه خف خف .. المي والملح خف بما حلف وكونه صف دونه ياس صف .. انصارع فيه واقدرني الصراع لا عرّاف شاكيته عرف .. ولا فزاع منه جن افزاع ولا سلمت فيه ولا صدف .. ولا للقسم طعت امنين طاع صهدت الكبد وين الدمع جف .. رجية عمر ما تقبل اوداع علي ليام خليت السلف .. ايردن فيه كيل الصاع صاع. الخلاصة أن الشعر الشعبي الليبي بالذات، هو وحده الذي له القدرة الخارقة على قهر القبح، والدخول عبر مسامات الجلد الخشن بالتحديد، وكذا عضلات القلوب القاسية المتجبرة، إما ليقضي عليها لأنها قبيحة، أو ليخترقها كي تتعظ وتعود أدراجها منهزمة ذليلة، هذا النوع من الشعر، منوط بتلك المهمات، مهما كانت مقاصد الشاعر الذاتية وخصوصياته وآلامه الثقيلة على الوصف.