إعداد/ مروى محمد أبو شعالة حسن منصور الصديق بإشراف/ السفير. أحمد جــــرود مكتب التخطيط السياسي والإستراتيجي
الخَلفِيّة المظاهرات التي اجتاحت العاصمة الفرنسية باريس خلال عطل نهاية الأسبوع منذ شهر نوفمبر ، تذكر بأحداث مايو عام 1968 التي قادها الطلبة والعمال والاشتراكيون والشيوعيون، والتي تمثل أكبر إضرابٍ عام شهده تاريخ فرنسا. أدت في النهاية إلى تنحي الرئيس شارل ديغول بالموافقة على حل الجمعية الوطنية والإعلان عن عقد انتخابات برلمانية جديدة قادت لخروج بطل الحرب العالمية ذاته من السلطة عام 1969. الأسْبَاب الاقْتِصَادِيّة المُبَاشِرَة: في مسعى من فرنسا لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري في إطار التزامها باتفاق باريس للمناخ وكذلك لتوفير دخل إضافي لميزانية الدولة، فرضت الحُكومة الفرنسيّة ضريبة القيمة المضافة التي شملت الديزل بنسبة بلغت 14 % وضريبة قيمة أخرى على البنزين بلغت نسبتها 7.5 % في عام 2018، مع زيادة إضافيّة كان من المُقرر إجراؤها في الأول من يناير 2019، علما بأن أكثر من 90 % من إيرادات الدولة الفرنسية مصدرها الضرائب، وهي أكبر اقتصاد خدمي في العالم، فهي أكبر دولة سياحية بالعالم بـ 82 مليون سائح في العام. أثار هذا الأمر حفيظة الشعب الفرنسي مما دفعهم للنّقاش – عبرَ مواقع التواصل الاجتماعي – حول إمكانيّة تنظيم حركة احتجاجيّة ضد الزيادة في أسعار الوقود. انطلقت شرارة التظاهرات في شهر مايو 2018، يتهم المتظاهرون الحكومة بمحاولة تحميل المواطنين المسؤوليّة لدفع الجزء الأكبر من تكلفة ضريبة الكربون وباقي المخاطر البيئيّة. حركة الاحتجاجات الشعبيّة زادت وتفاقمت بحلول شهر نوفمبر الماضي حيثُ تمكنت من إشعال فتيل المظاهرات في فرنسا والتي سرعان ما انتقلت إلى دول أوروبية مجاورة، اختارت الحركة السترة الصفراء كرمزٍ مُميّز لها باعتبار أنّ القانون الفرنسي يفرض على جميع سائقي السيارات حمل سُترات صفراء داخل سياراتهم كإجراء وقائي؛ أصبحَ رمز السترات الصفراء شائعًا على نحو متزايد في بعض الدول داخل وخارج الاتحاد الأوروبي. خرجت حركة السترات الصفراء في البداية للتنديد بارتفاع أسعار الوقود و تكاليف المعيشة ثم تطورت مطالِبها لتشملَ إسقاط الإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحُكومة، والتي ترى الحركة أنّها تستنزفُ الطبقتين العاملة والمتوسطة فيما تُقوّي الطبقة الغنيّة. دعت الحركة بالإضافة إلى تخفيض قيمةِ الضرائب على الوقود، رفع الحد الأدنى للأجور ليصل إلى 1400 يورو وتحديد الحد الأعلى بـ 15000 يورو، ثم تطوّرت الأمور فيما بعد لتصل حدّ المناداة باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي يصفونه برئيس الأثرياء، وأن الهدف الحقيقي من سياسته بفرض ضرائب مرتفعة على الوقود هو تمويل العجز الذي قد ينتجُ عن التخفيضات الضريبية للشركات الكبرى. في المُقابل ذكر ماكرون أنّ الهدف من إدارة برنامج الإصلاح الاقتصادي هو زيادة قدرة فرنسا التنافسية في الاقتصاد العالمي، كما أكّد في وقتٍ سابق على أن ضريبة الوقود ستثبطُ من استخدام الوقود الأحفوري. في أواخر نوفمبر 2018؛ أظهرت استطلاعات الرأي أن حركة السُترات الصفراء تحظى بتأييدٍ واسع النطاق في فرنسا حيثُ يؤيدها ما بين 73% حتى 84.% – المنَاخُ السّيَاسِيّ الإقْلِيمِيّ وَالدّوْلِيّ: يتعرض الاقتصاد في دول الاتحاد الأوروبي إلى تباطؤ حاد يوجع الدول الأفقر أكثر من الأغنى، غير أن شعوب الدول الغنية أقل استعدادا للاحتمال، ومن أجل الحفاظ على مستوى الحياة الراهن، غالباً ما تلجأ الحكومات إلى تراكم الدين العام، الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى التضخم. والبديل الوحيد لذلك هو أن تُرغم الحكومات شعوبها على خفض الاستهلاك، بغرض بدء خفض الديون تدريجيا، أو على الأقل وقف تراكمها، وهذا ما أدى إلى الاحتجاجات في باريس.ويتوقع أن تتعرض الأحزاب الحاكمة إلى توجهات انتخابية انتقامية في صناديق الاقتراع لصالح اليمين المتطرف المعادي لمؤسسات الاتحاد الأوروبي. لذلك فإن الاحتجاجات الدائرة في فرنسا، ليست سوى البداية، فالإصلاحات الاقتصادية تواجه موجة من الرفض والاحتجاجات الشعبية، ومن المرجح أن تتسبب الأزمة الاقتصادية في زعزعة الاستقرار السياسي في الدول الأوروبية واحدة تلو الأخرى. الجدير بالذكر أن هذه الموجة من الاحتجاجات التي استخدمت منصات التواصل الاجتماعي “الأمريكية” في الحشد لها وقيادتها، قد ارتفعت وتيرتها بُعيد اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع شهر نوفمبر الماضي، إنشاء “جيش أوروبي لحماية أوروبا، لحمايتها من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة” في مجال المعلوماتية، وهو الأمر الذي أيدته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهاجمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشكل عنيف وبلغة غير دبلوماسية في تغريدة على صفحته على التويتر جاء فيها: في فرنسا؟ لقد بدؤوا بتعلم الألمانية في باريس قبل أن تصل الولايات المتحدة”. – ردود الفعل الدولية: في إطار ردود الفعل على مظاهرات “السترات الصفراء” في فرنسا، هاجم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتّفاق باريس المناخي، معتبرا أن تلك المظاهرات تثبت فشل هذا الاتّفاق. أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد استنكر “مشاهد الفوضى التي يسببها المتظاهرون والعنف المفرط في مواجهتهم”، موضحا أنه يتابع الوضع “بقلق”. التداعيات المحتملة على الشأن الليبي: نرى أن إشغال الحكومة الفرنسية بالأوضاع الداخلية سيقلل من تركيزها على السياسة الخارجية بشكل عام، وبالتالي سينعكس تراجعاً ملحوظاً في مستوى انخراطها في الأزمة الليبية، والذي تراجع بالفعل منذ التوافق الأمريكي الإيطالي حول قيادة الجهود الدولية لحل الأزمة الليبية بمساهمة البعثة الأممية. هذا الأمر سيتيح الفرصة لإيطاليا للعب دور أكبر في حلحلة الأزمة الليبية التي تؤثر على أمنها القومي بشكل مباشر على الصعيدين الاقتصادي والأمني. انعكس هذا النشاط الإيطالي مؤخرا في استقبال قائد الجيش الليبي في المنطقة الشرقية (خليفة حفتر) للمرة الثانية في أقل من شهر من قبل رئيس الوزراء الإيطالي، في إشارة إلى وجود تقارب حديث في الرؤى بين الطرفين، والذي سيكون بالضرورة على حساب علاقات الأخير القوية السابقة مع الجانب الفرنسي.